-
نشر بتاريخ: 24 تشرين1/أكتوير 2020
باروخ زكي مزراحي هودي مصري، ولد بـمحافظة القاهرة عام 1926 م، وكان والده زكي مزراحي واحداً من تجار الدخان، في شارع كلوت بك، وكان ثرياً إلي الحد الذي سمح له بإلحاق ابنه باروخ
بمدرسة الفرير، قبل أن يتوفي عام 1933 م، إثر إرهاق شديد في العمل.. وعلي الرغم من وفاة الوالد، راحت أم باروخ تعمل بجد وبلا كلل، لتوفر لأبنائها حياة قريبة من تلك التي وفرها لهم والدهم، واشتهرت بين جيرانها بأنها خياطة بارعة تتقاضي أجراً يتناسب مع مهارتها وذوقها الرفيع، بحيث نجحت في إلحاق باروخ في سبتمبر 1940 م بمدرسة الفرير الثانوية، المعروفة باسم مدرسة القديس يوسف، وحصل منها علي شهادة التوجيهية، من القسم الأدبي عام 1944 م، والتحق في العام نفسه بكلية التجارة جامعة القاهرة، وتخرج فيها عام 1948 م، وتخصص في المحاسبة.
في نفس عام تخرجه، عمل باروخ في شركة كونزلز لاستيراد المعلبات والمحركات، ثم انتقل في عام 1950 م للعمل في شركة بخكو للأدوية والأدوات الجراحية، وظل يعمل فيها لمدة عشرة أشهر، انتقل بعدها للعمل مدرساً، في مدرسة الأقباط الكبري الثانوية، لتدريس اللغة الفرنسية، وكان عمله ينتهي فيها في الرابعة عصراً، حيث يعمل حتي المساء في شركة سمسرة، تحمل اسم دانيال نبياه وشركاه.
أصبح باروخ موظفاً ثرياً، بالمعني المعروف في تلك الأيام، يقطن شقة أنيقة، تحوي كل متطلبات العصر، ويرتدي أفخر الثياب، ويكفل أمه وشقيقته إيفيت وشقيقه ماير، وكل شيء يسير معهم علي ما يرام. حتي ظهرت في حياته فورتينيه كان هذا في عام 1955م، عندما التحقت فورتينيه الفاتنة الشقراء بنفس المدرسة، التي يعمل بها باروخ، وأصبحت زميلته في العمل. ومنذ اللحظة الأولي، التي وقع فيها بصره علي شعرها الذهبي وابتسامتها الساحرة، غرق باروخ في غرامها حتي النخاع، وراح يتقرب منها في لهفة واضحة، وهي تسمح له بالاقتراب إلي حدود مدروسة، ثم تصده وتمنعه عن الاستطراد في حنكة وصرامة، تمتزجان برقة وإغراء يفتنانه، ويخلبانه لبه وصوابه، حتي إنه عرض عليها الزواج. لكنها رفضت عرضه؛ لأن عائلتها كلها قررت الهجرة إلي إسرائيل، وحاول باروخ إقناعها بالبقاء في مصر مشيراً إلي أن كليهما يتمتع بوظيفة ممتازة، ووضع مالي جيد ولكنها تشبثت برأيها، وحسمت الأمر بأن الوسيلة الوحيدة هي أن يهاجر هو أيضاً إلي إسرائيل أو يفترقان تماماً.
وتحت ضغط الهوي والحب، أقنع باروخ أمه بالهجرة إلي إسرائيل، وسافرا رغماً عن إرادتها وتوجها بحرًا إلي ميناء بيريه في السادس من فبراير عام 1957م، وبصحبتهما الفاتنة فورتينيه. وهناك التقي مندوبي الوكالة اليهودية في بيريه، ولاحظ استقبالهما الحار لصديقته فورتينيه ومعرفتهما الواضحة بها، قبل أن ينتقل الجميع إلي باخرة أخرى حملتهم إلي ميناء حيفا، حيث أرض الميعاد، التي حلموا بها طويلاً.
وهناك، في قلب إسرائيل، راحت الصدمات تتوالي. كانت الصدمة الأولي هي أنه سينتقل مع أمه، للعيش في مستعمرة معجان ميخائيل حيث تعمل أمه في حياكة الملابس، ويعمل هو فلاحاً أجيراً.. والصدمة الثانية هي أن حياته في أرض الميعاد، لن تساوي ذرة من حياته في مصر، إذ يكفيه أجره بالكاد، ليعاني شظف العيش، ويجد مأوي متواضعاً، ويتناول ثلاث وجبات أشد تواضعاً.. أما الصدمة الكبري، التي زلزلت كيانه، وحطمت كل أحلامه، فهي أن زواجه من فورتينيه مستحيل، لأن القوانين الإسرائيلية تحظر زواج اليهودي من فتاة ليست من أم يهودية.
ولم تكن هذه نهاية الصدمات، بل تواصل الأمر بانتقاله إلي حيفا، وعمله هناك رجل شرطة، بأجر تافه ضئيل، واضطراره للعيش في مسكن مشترك، مع يهودي شرقي آخر، ومعاناته من سوء معاملته، باعتباره أحد يهود السفرديم، من الطبقة الثانية، وفي النهاية تزوجت فورتينيه من يهودي ثري، وانقطع آخر أمل له في الزواج منها.
وعلي الرغم من كل هذا، لم يبق باروخ بلا زواج، لقد التقي، أثناء عمله في شرطة الآداب، زميلته مارجريت، وسرعان ما تزوجها، وبدأ حياة أسرية جديدة، ينفق عليها من الإتاوات والرشاوي، التي يتقاضاها من قطط الليل، لغض البصر عن نشاطهن.
وذات يوم، استدعاه رئيسه، وقال له في لهجة آمرة حازمة إنه قد رشحه لعمل مهم، وطلب منه أن يذهب غداً إلي مكتب المخابرات، ويقابل رئيسه حايم أيدولوفيتش، ومن هنا كانت البداية. لقد التقي في الصباح التالي مدير مكتب المخابرات المحلي البولندي الأصل الذي أبلغه بأنه تم تعيينه في جهاز المخابرات الإسرائيلي، وأسند إليه مهمة مراقبة نشاط بعض الشيوعيين، في قلب إسرائيل. وانغمس باروخ فجأة في هذا العالم، وكان يغمر رئيسه بتقاريره بالغة الخطورة عن نشاط الشيوعيين في إسرائيل ويتقاضي مكافآت سخية مقابل هذا، وبرع في عمله كثيراً.
وبدأ خطوته الثانية في عالم المخابرات، في البداية أسندوا إليه بعض أعمال الترجمة، لتقارير واردة من العملاء الأجانب، ثم استدعاه المدير ذات مرة، وأخبره بأنهم سيرسلونه في مهمة إلي هولندا حيث افتتحوا مكتباً تجارياً هناك، كغطاء لأعمال التجسس، وسافر باروخ إلي هولندا، وهناك أقام علاقات جيدة مع المصريين المقيمين في العاصمة الهولندية، ونشطت علاقته بهم، وجمع قدراً كبيراً من المعلومات، جعله يؤكّد أن مستوي الوعي الأمني عند العرب منخفض للغاية، فما أن يبدأ الحديث مع أحدهم، حول موضوع ما، حتي ينطلق مثرثراً، ويروي كل ما لديه عنه، مهما بلغت سرية الأمر.
وبعد النجاح الساحق لمهمته في هولندا عاد باروخ إلي تل أبيب، ولم تمض فترة قصيرة حتي استدعاه مديره مرة أخرى، وأخبره أن المصريين قد ضربوا إحدي السفن الإسرائيلية، أمام باب المندب، وهذا ما دفعهم إلي أن يسندوا إليه مهمة بالغة الخطورة، إذ سيسافر أولاً إلي عدن ثم اليمن الشمالية وبعدها إلي دولة الإمارات، ويريدونه أن يجمع أكبر قدر من المعلومات عن هذه البلاد، ويتابع نشاط منظمة التحرير الفلسطينية فيها، ويريدون أن يعرفوا بالتحديد، هل يتدرب الفدائيون هناك علي ضرب ناقلات البترول الإسرائيلية في البحر الأحمر أم لا؟
بدأ باروخ رحلته، بجواز سفر مغربي، يحمل اسم أحمد الصباغ وعلي كتفه، كأي سائح عادي، آلة تصوير جيدة، تساعده علي التقاط صور الأهداف الحيوية. وسافر إلي عدن، وأنهي مهمته فيها بنجاح، ثم إلي اليمن، حيث أقام في الحديدة، وبدأ هناك عمله في ثقة وبساطة، فراح يتجوَّل في الأسواق، وبالقرب من الميناء، حاملاً آلة التصوير المعلقة بكتفه، والتي يلتقط بها عشرات الصور للميناء، والسفن الراسية فيه، وإجراءات الأمن من حوله، ثم يعود إلي حجرته في الفندق.
لكن فجأة، وفي نفس اليوم الذي استعد فيه للسفر إلي أديس أبابا، فوجئ بشابين من رجال الأمن اليمنيين في حجرته، يسألانه في لهجة مهذبة تفتيش حجرته، فحاول الاعتراض، وثار ثورة مصطنعة، وهدد بالاتصال بسفارة المغرب، ولكن أحداً لم يعره انتباهاً، وعثر الشابان علي الأفلام، فصاح مؤكداً أنها مجرد صور تذكارية للرحلة، ولكن أحدهما دسّ يده في جيب باروخ، وأخرج الرسوم الكروكية للميناء والمواقع العسكرية اليمنية.
أقتيد باروخ إلي مبني التحقيقات، ولكنه ظلّ يصر علي أنه مغربي الجنسية، إلا أن اليمن كانت قد أبلغت المخابرات المصرية بسقوط الجاسوس، الذي حذرتها مصر من أنه سيصل إليها مسبقاً، بعد أن نقل أحد عيونها المعلومة إليها من قلب إسرائيل، وأرسلت مصر ضابط المخابرات المصري رفعت جبريل (الثعلب )، الذي واجهه وكشفه أمام نفسه، ثم حمله معه إلي القاهرة.
لم تكن رحلة الضابط المصري مع الإسرائيلي باروخ زكي مزراحي، من اليمن إلي القاهرة سهلة أو هينة، بل كانت مغامرة عنيفة، تستحق مجلداً ضخماً لسردها، خاصة مع محاولات الموساد المستميتة لاستعادة ضابطهم، ولكنهما في النهاية وصلا إلي القاهرة، وتسلمت السلطات باروخ وقبل أن يبدأ إسماعيل مكي، نائب المدعي العسكري العام، تحقيقاته معه، مال نحوه، وأخبره بابتسامة هادئة، أن زوجته مارجريت رزقت بمولودة أمس، وهي في حالة جيدة.. وهنا انفجر باروخ باكياً، واعترف بكل شيء.
بعد نهاية حرب أكتوبر 1973 طالبت إسرائيل مصر بمبادلته بمجموعة من الجنود الأسرى ولكن الجانب المصري رفض المبادلة بحجة أن مزراحي ليس جندي أسير بل جاسوس. هذا الأمر جعل رئيس الموساد آنذاك زافي زامير يسافر إلى واشنطن من أجل التوسط لصالح مزراحي. في منتصف المحادثات طلبت رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير عن طريق وزير دفاعها موشي ديان الانسحاب من المفاوضات والخضوع للرأي العام وتجاهل قضية إطلاق سراح مزراحي والتركيز على استرداد الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى الجانب المصري. نتيجة لذلك قرر زامير تقديم استقالته من رئاسة الموساد.
في سنة 1974 تم الإفراج عنه مقابل الإفراج عن الجاسوس المصري عبد الرحيم قرمان، والجاسوس المصري أرميني الأصل كيبورك يعقوبيان الملقب بالحوت الأزرق، ومعهما عددًا من الأسر المصريين من شيوخ وأفراد قبائل من أهل سيناء.
توفي باروخ زكي مزراحي في سنة 2005 بهدوء بدون أن يصدر من الحكومة الإسرائيلية أي بيان رسمي يذكر فيه العرفان والامتنان التي قدمها طوال خدمته العسكرية كما هي العادة. تم تجسدي قصة سقوط الجاسوس باروخ مزراحي في مسلسل باسم الصفعة في رمضان 2012م بطولة شريف منير بشخصية باروخ والراحل هيثم أحمد زكي في شخصية الضابط المصري رفعت جبريل.
تحرير .. سهر سمير فريد
الأكثر مشاهدة
Who's Online
56 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع
الصحة
الدائرة الأخيرة
فيديو كاسل جورنال
الدائرة الأخيرة
الدائرة الأخيرة مع الدكتور عاصم الليثى
الدائرة الأخيرة مع اللواء نبيل أبو النجا
كلمة د/عبير المعداوى فى عيد الشرطة