في اعتقادي أن عرب اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى عليهم أن يعوا ذاتهم ووجودهم ومقعدهم في قطار الحياة المتجه دائماً في سفره الطويل نحو الأمام ، فالإنسان في هذه الأقطار مثل الإنسان

في بقية شعوب العالم يعيش في رحلة عمر الأصل فيها أن يتجه مسارها نحو التقدم، بحيث تبدأ هذه الرحلة من يوم الولادة وتنتهي غالباً بالموت عند الكبر بعد أن يكون هذا الإنسان قد ترك وراءه أبناء يواصلون بعده رحلة عمر لا تنتهي بتعاقب الأجيال التي يجب أن تسافر في حركة تصنع التأريخ كصيرورة ، وهكذا فإن شعوب العالم دون استثناء هي شعوب مسافرة في رحلة عمر لا تتوقف على قطار الحياة الذي لا يعرف إلا مسار واحد يذهب بها نحو الأمام .

لكن ما يجب أن يلاحظ أن حركة الشعوب بأحداثها المختلفة في هذه الرحلة الطويلة تحمل في طياتها وفي محطاتها فروق جوهرية تتعلق على وجه التحديد بصناعة المستقبل؛ فبعض الشعوب في هذه الرحلة تكتب قصة سفرها في الزمن وبعضها تكتب قصة سفرها في التأريخ كصيرورة نحو التقدم الذي تصنعه إرادة الإنسان وفعله العقلاني في معركة التغيير والبناء ، بمعنى آخر إن الشعوب التي تصنع أحداثاً تأريخية كبرى في رحلة عمرها وينتقل أجيالها من مقعد إلى آخر نحو التقدم هي الشعوب التي تكتب قصة سفرها في التأريخ أو قل تصنع التاريخ على سطح جغرافيتها، عكس الشعوب التي لا تصنع أحداثاً تأريخية ناجحة وكبرى في رحلة عمرها ولا ينتقل أجيالها من مقعد إلى آخر في قطار الحياة فإنها تكتب قصة سفرها في الزمن؛

فالشعوب حين تسافر في التأريخ ويكون التأريخ بأحداثه الكبرى "مختبرًا" لصناعة مستقبلها فإنها دون شك في رحلة عمرها تصنع التحولات التأريخية التي تصل بها إلى وطن للعيش الكريم ، أما حين تسافر في الزمن فإن سفرها يطول ويتكرر؛ ولكنها لا تصل في رحلة عمرها إلى وطن، لأنها ببساطة شديدة تفشل في صناعة الحدث التأريخي القادر على صناعة التحولات التأريخية المناط بها تحقيق التقدم وصناعة المستقبل .

اليوم ونحن نضع أقدامنا في القرن الواحد والعشرين نشاهد كثيراً من شعوب العالم وصلت في رحلة عمرها إلى وطن لأنها بعقلٍ واعٍ أرادت أن تسافر في حركة التأريخ نحو المستقبل فصنعت في مسارها ثورات ناجحة وتحولاتٍ كبرى أنتجت بموجبها مشروعات ثورية وقيادات وطنية حولت بلدانها بكل قساوتها إلى أوطان للعيش المشترك؛ أما اﻹنسان في اقطارنا العربية فإنه حتى اليوم مسافر في رحلة عمر تائهة ، تتوخى حتى البحث عن وطن ولا أظنه سوف يصل في المستقبل القريب لأنه مصر على السفر في مسار الزمن؛ بل فشل أكثر من مرة في صناعة الحدث التأريخي القادر على إنتاج شروط التحولات التاريخية ={ مشروع وطني } رغم ثوراته المتكررة !

التأريخ بلاشك قد توقف بنا بعد أن صنعنا الحضارات وبنينا السدود وقهرنا قساوة الجغرافيا وتواصلنا تجارياً وحضارياً مع شعوب العالم، في فجر التاريخ كنا أصحاب حضارة واليوم حفاةٌ عراة نتقاتل في الحاضر من أجل أن يتجدد الماضي بكل قبحه ونماذجه / التاريخية / الإنقسامية / في ترويسة مستقبلنا، ما يعني أننا اليوم بعد ثورات ربيعنا مازلنا نفخخ حاضر الأجيال القادمة، ونعطل صيرورة التاريخ .

الفرق بين الزمن كتعاقب أوقات وبين التأريخ كصيرورة نحو تحقيق التقدم الذي يتولى صناعة المستقبل في حياة الشعوب المسافرة يكمن "دائماً وأبداً" في قدرة الشعوب نفسها على التحرك الواعي والعقلاني نحو التغيير المقصود وصناعة الحدث التأريخي بأبعاده الثورية والوطنية التي تجعل من تلك الشعوب قادرة على مغادرة الماضي بكل قيمه السلبية إلى الحاضر المغاير والذي يمثل وفق مفهوم الصيرورة التأريخية محطة إنتظار متجه نحو المستقبل أكثر مما هي مرتبطة بالماضي، أما حين تعجز الشعوب عن صناعة الحدث التأريخي الذي يدفعها في حركة ثورية تغييرية إلى المستقبل فإنها بلا شك تظل تعيش في الماضي بين قيمه وأحداثه وأدواته الماضوية، فتعيش مسلسل مستمر من التكرار الهزلي لتلك الأنساق والأحداث التي تجعلها تعيش زمن واحد تتوارث فيه الأخطاء والقيم الماضوية كما تتوارث الجينات، وإن تعاقبت عليها الأوقات أو تغيرت الظروف، فلا قيمة ولا وجود لمعنى التأريخ هنا (فالتحرك التغييري وتكرار المتشابه يشكلان الفرق بين التأريخ كصيرورة وبين الزمن كتعاقب أوقات ) هذا يعني أن التأريخ هو حركة اﻹنسان الهادفة إلى تغيير المجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً؛ أما الزمن فهو حركة الأوقات المتعاقبة حين يتوقف اﻹنسان أو المجتمع عن الحركة الإيجابية نحو التغيير وتتعطل قواه العقلية عن الإنتاج والإبداع وتصبح حياته تكرارًا لمشهد واحد لا يتغير أو أنه يتحرك سلبياً فيعيد إنتاج الماضي في حاضره.

عندما تنجح الشعوب في التغيير فإنها تحوّل الزمن إلى تأريخ وإلى صيرورة نحو التقدم أما حين تفشل الشعوب في التغيير فإنها تسلب الزمن "تأريخيته" فتكون النتيجة توقف التأريخ عند جيل معين - كما هو الحال لدى أمة العرب بعد أن صنعت الحضارة - ويستمر الزمن في المسير نحو الأمام وليس نحو التقدم يحمل معه أجيال كثيرة ولكنها غثاء سيل تحمل الجهل والفقر والمرض، بل تتوارث التخلف وتعيد إنتاج عوامل الإنحطاط والتقهقر .

"أهل الكهف" على سبيل المثال عاشوا في رحلة العمر 309 سنين أحياء في الكهف يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال كما يخبرنا عنهم القرآن الكريم ( وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ) ولكنهم كانوا يعيشون في حركة زمنية صرفه لا صيرورة فيها، فالتاريخ لا وجود له في حياتهم لإنه توقف في باب الكهف لحظة دخولهم؛ وذلك لسببين إثنين الأول : أن حركتهم في الكهف لم تقصد التغيير؛ بل كانت حركة تكرار وتشابه "تقلب ذات اليمين وذات الشمال"لمدة 309 سنين لا جديد فيها يغادر القديم ولا إنتقال من الماضي إلى الحاضر المتغير ،

والثاني. : إن قواهم العقلية تعطلت وتوقفت عن الإبداع والإنتاج ،فالتأريخ توقف بهم في أول يوم دخلوا فيها الكهف؛ واستمر الزمن في المسير 309 سنين يزحف بهم في رحلة عمر دون تغيير ، ولذلك محال علينا قراءة تأريخ عنهم في تلك السنين لأنهم توقفوا عن الحركة الإيجابية التي تتجه نحو التقدم وصناعة المستقبل وبقيت حركتهم سلبية تكرر الحدث الواحد والمتشابه فلا ماضي ولا حاضر مغاير رغم طول الفترة المقدرة بثلاثة قرون وتسع سنين .

هكذا حال الشعوب عندما تتكرر الأحداث في حركتها الزمنية دون تغيير في الصيرورة فإنها تعيش زمن واحد فقط دون تأريخ أو دون صيرورة تأريخية، بمعنى آخر لا فرق بين ماضيها وحاضرها فالحاضر هنا تكرار هزلي لأحداث الماضي الذي يظل متحكماً في كثير من تفاصيل حياتها الحاضرة،

أما الحاضر الذي يكون نتيجة حركة التأريخ كصيرورة، لا يتحكم الماضي بمساره وحركته وحتى بمخرجاته المتجهة دائمًا نحو التقدم الذي يصنع المستقبل في حياة الشعوب .

عندما يتحرك التأريخ وفق أحكام الصيرورة الثورية لا يكون بمقدور أي اعتمالات سياسية وحتى اجتماعية العمل بشكل سلبي على استدعاء النماذج التأريخية الماضوية والممانعة كما هو الحال لدى العرب ، فالتأريخ لا يعيد نفسه كما قال ماركس وإن فعل فإن التكرار يحول الأحداث إلى ملهات مضحكة.

التأريخ كصيرورة يقدم نفسه دوماً حليف للشعوب المتحركة والمتطلعة نحو التغيير لأنه بطبيعته يتجه نحو تحقيق التقدم؛ أما الزمن فلا يقدم نفسه كذلك لأنه لا يتجه نحو تحقيق التقدم، وإن كانت حركته إلى الأمام إلأ أنها تظل حركة تتعلق بتعاقب الأوقات الزمنية فقط ، وتفسير سر ذلك : أن الزمن تصنعه الجغرافيا بماهيتها الجامدة دون عقل او روح ، فحين تدور الأرض حول نفسها وحول الشمس تعطينا الزمن كتعاقب أوقات أما التأريخ يصنعه الإنسان حين يتحرك بوعي وبعقل إيجابي نحو التغيير على سطح هذه الجغرافيا.

"الزمن لا يصنع المستقبل ولا يعنيه ذلك" فالزمن غاية بذاته ، ناتج عن دوران الأرض أما التأريخ مكلف بصناعة المستقبل لأن أحداثه ومحطاته وصيرورته هي المختبر الحقيقي الذي يتم فيه صناعة المستقبل كونها ناتجة عن حركة الإنسان العاقل، والحركة هنا تعني النجاح في صنع الحدث التأريخي ={ التحولات التأريخية الثورية } القادر على السفر بالمجتمع من الماضي السلبي إلى الحاضر المتغير والإيجابي،

فالشعوب التي تصنع التأريخ كصيرورة ناجعة وتسافر في حركته هي الشعوب التي نجحت في تحويل الأحلام الوردية لمن كانوا في الماضي إلى واقع ملموس تعيشه أجيال الحاضر أما الشعوب التي تسافر في رحلة عمرها في الزمن ولا تصنع الحدث التأريخي؛ فإن أجيال الحاضر تعيش واقعاً عاشته أجيال الماضي يتوارثون جميعاً أحلام لن تتحقق في الواقع مهما كان حجم التضحيات !

العرب اليوم بكل تأكيد تائهون في رحلة عمرهم أضاعوا طريق المستقبل وفشلوا في تحقيق أحلامهم التي ضحى لأجلها ثوارهم

فالتجارب التأريخية تقول : عندما تتكلم أفواه البنادق يتوقف عقل الإنسان عن العمل والإبداع، كما أن مستقبل الشعوب لا يبنى في أي حال من الأحوال في غيبة العقل ،

ربما وحدهم العرب الذي يتوجب عليهم أن يفكروا في الطريق التي سلكوها طويلاً في رحلة عمرهم عبر الأجيال المتعاقبة هل كانت رحلة عمر في أتون الزمن أم كانت رحلة عمر في صيرورة التأريخ؟

يعرف أحد المؤرخين الألمان التأريخ بكونه (حاصل الممكنات التي تحققت) فماذا تحقق اليوم من أحلامنا وتطلعاتنا وحتى من خلال تضحياتنا منذ قرون ؟

ولماذا لم تتحقق بعد ؟

والأهم من ذلك هل رحلة عمر العربي عبر الأجيال المتعاقبة هي رحلة عمر بقصد الوصول إلى وطن؟

وما هو الفرق بين الأوطان والبلدان أو الأقطار ؟

وما هو المشروع الذي يحول الجغرافيا بكل قساوتها إلى وطن، والإنسان إلى مواطن مستخلف في الأرض، والسلطة بكل مفاسدها وجنونها المستبد إلى دولة رشيدة وعاقلة ؟

وما هو الفرق الجوهري بين السلطة والدولة؟

وهل تبنى الأوطان والدول بمداميك من الأحجار والحديد أم تبنى بمشروع وطني مداميكه الإنسان المدني بطبعه وفكره وثقافته الجمعية ؟

هل قرأنا بوعي منهج التقدم الذي سوف نتجاوز به اختبار القبول في جامعة التأريخ "كصيرورة" ونحجز مقعدنا في قسم هندسة الأوطان والدول لا سيما ونحن نطوى زخم الربيع العربي الذي تعرض للانقلاب في أكثر من قطر عربي ؟

سوف يتقاتل العرب كثيراً وربما سنوات عديدة، ولكنهم بلاشك لن يبنوا وطن ولن يحموا أرض أو سيادة وطنية، بل لن يسافروا في رحلة عمرهم في صيرورة التأريخ وسوف يفشلوان في المستقبل كما فشلوا في الحاضر فيما يتعلق بصناعة الحدث التأريخي ما لم يصبحوا مؤهلين سياسياً وثقافياً وقادرين بعقلٍ واعٍ على تقديم حزمة من الإجابات العقلية والجادة على تلكم الأسئلة السابقة وبالشكل الذي يجعل من تلك الإجابات العقلية مشروع ثوري نهضوي وطني يحول اقطارهم إلى اوطان للعيش الكريم والتعايش السلمي بل التداول السلمي للسلطة

فهمي محمد عبدالرحمن

الأكثر مشاهدة

Who's Online

538 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

الصحة

الدائرة الأخيرة

فيديو كاسل جورنال

الدائرة الأخيرة  

الدائرة الأخيرة مع الدكتور عاصم الليثى

 الدائرة الأخيرة مع اللواء نبيل أبو النجا

 كلمة د/عبير المعداوى فى عيد الشرطة

عنوان الجريدة

  • 104-ش6-المجاورة الأولى-الحى الخامس-6أكتوبر
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
  • 01004734646

إصدارات مجموعة كاسل