-
نشر بتاريخ: 16 تشرين2/نوفمبر 2020
في الغالب يقدم الناخب الأمريكي على منح الرئيس فرصة ثانية في الإنتخابات الرئاسية خصوصاً عندما تحقق إدارة هذا الرئيس بعض النجاحات، أو يكون على طاولة سياستها
الخارجية ملفات مهمة ومصيرية تتعلق بالحضور الأمريكي ودوره الموثر على مجريات الأحداث في الساحة الدولية، وهذا ما نستطيع ملاحظته منذ إندلاع الحرب العالمية الثانية التي أطلقت العنان لدور الولايات المتحدة الأمريكية في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط على وجه التحديد، ومع ذلك يظل فوز الرئيس بيل كلنتون على الرئيس بوش الأب في انتخابات 1992/م إستثناء يشار إليه بخصوص ذلك، مع العلم أن حقبة الرئيس الامريكي بوش الأب شهدت انحسار نهائي لدولة الإتحاد السوفيتي التي ظلت منذ الحرب العالمية الثانية تشكل العدو اللدود سياسياً وايديولوجياً للولايات المتحدة الأمريكية في معادلة صراعهما الدولية = { حرب باردة } التي شطرت العالم منذ الخمسينيات من القرن الماضي إلى قطبين أو معسكرين بين الشوعية والرأسمالية.
ما يحسب يومها لرئيس جورج بوش الأب أنه نجح بذكاء شديد في ترتيب وضع العالم بعد هذا الحدث الكبير الذي تمثل بسقوط الإتحاد السوفيتي والأنظمة الشوعية وما تلا ذلك من تقلبات كبيرة في ميازين القوى الدولية، لاسيما وقد تكلل نجاح بوش الأب في جعل الولايات المتحدة بمفردها هي دولة القطب الواحد وصاحبة القرار النافذ في العالم، كما أن بوش الأب استطاع أن يكسر عقده الجيش الأمريكي بعد هزيمته في حرب فيتنام « الشهيرة » حين خاض حرب الخليج الثانية ضد الجيش العراقي بعد أن أقدم صدام حسين على احتلال الكويت، ما يعني أن معركة تحرير الكويت في عام 1991/ كانت هي أول مواجهة عسكرية مباشرة يخوضها الجيش الأمريكي في البر منذ حرب فيتنام، ناهيك أن مثل هذا الانتصار في معركة تحرير الكويت قد منح الولايات المتحدة الأمريكية استحقاقات إضافية في ثروة الخليج النفطية، ليس بكونها الدولة العظمى والحليفه سياسياً واقتصادياً للأنظمة الحاكمة في دول الخليج فحسب بل بكونها هذه المرة دولة حامية عسكرياً لوجود هذه الدول الغنية بالنفط في منطقة الشرق الأوسط، اي أن سياسة الحماية الأمريكية تجاه دول الخليج أصبحت على يد الرئيس بوش الأب مسألة ضرورية غير قابلة للتشكيك، مع حضور القواعد الأمريكية في منطقة البترو دولار.
ومع تحقيق مثل هذه النجاحات الكبيرة من قبل الرئيس بوش الأب على صعيد السياسية الخارجية والحضور الأمريكي المنفرد في العالم إلا أن المرشح الديمقراطي بيل كلنتون فاز عليه ربما نجد شئ من الغرابه في أحد التحليلات التي ذهب إليها هيكل فيما يتعلق بأن كارزميات كلنتون ووسامة شخصية لعبت دوراً في فوزه على بوش الأب، لكون الناخبين من الشباب والشابات أصبحوا يركزوا على المظهر أكثر من تركيزهم على الجوهر في معركة الانتخابات، إلا أن ذلك يظل تحليلاً مقبولاً في عصر الموضه والجمال الذي شهد تغيرات في القيم الثقافية والتصورات الشكلية منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي،
بمعنى آخر لم يعد الوصول إلى كرسي الرئاسة في هذه الدولة العظمى مقصور على شخصيات سياسية من الوزن الثقيل من أمثال الرئيس كنيدي أو أيزنهاور أو هاري ترومان أو نيكسون...، بل أكثر من ذلك وصل الحال بعد ذلك إلى أن يفتح طريق الوصول إلى البيت الأبيض أمام شخصيات تأتي من خارج حقل السياسية، كما هو الحال مع الرئيس ترمب الذي فاز بشكل غير متوقع على السياسية المخضرمة هيلاري كلينتون، وهذا يعود في سببه الثاني إلى انتهاء زمن الصراع الأيديولوجي والفكري بين الاشتراكية والرأسمالية، ( صراع الأفكار والقيم الثقافة والإنسانية ) ودخول العالم إلى عصر الثقافة الرقمية، أو الزمن الذي أصبح فيه الإنسان قابلاً لتعليب الثقافي والفكري كما نفهم ذلك من طرح الفيلسوف الكندي - ألان دون - في كتابه القيم نظام التفاهة .
الرئيس ترمب أتى إلى رئاسة البيت الأبيض من عالم المال والأعمال وليس من عالم السياسة الذي يفترض أن يتم في أروقته صناعة الشخصية حين يتعلق الأمر بفرز رئيس لدولة عظمى مثل أمريكا، لذى ليس بمستغرب أن تمثل إدارته للقرار السياسي حالة إستثنائية في منطق السياسية الأمريكية على المستوى الداخلي والخارجي، فالرجل غير قادر على التفكير بعقل سياسي استراتيجي حتى مع حلفا دولته الاستراتيجيين، ومع ذلك فإن مغامراته في السياسة الخارجية بقدر ما كانت عجيبه لحد السماجة في نظر الكثيرين إلا أنه حقق بعض الارقام والخطوات التي كانت كفيلة بأن تجعل الناخب الأمريكي يقدم على منحة فرصة ثانية للبقاء في البيت الأبيض لولا كعب سياسته الاخيل على المستوى الوطني داخل أمريكا !
بعد انتخابه رئيسا للجمهورية في عام 2016 بدأ الرئيس ترمب يمارس السياسة والسلطة في دولته العظمى بمنطق التاجر أو المستثمر الذي يبحث دائما عن المال، لذلك بدأ يتحدث أو يذكر حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية « دول الخليج » بأن سياسة الحماية الأمريكية لهم لا تفرضها مسألة التحالفات السياسية والاقتصادية « الاستراتيجية » التي كانت معمولا بها منذ زمن الحرب الباردة بل يجب أن تخضع لمنطق الدفع المسبق للحماية « المال » ومع أن غلافت منطقة كان يحرج هؤلاء الحلفاء وبشكل مهين، إلا أنه استطاع مع التنمر الإيراني المتنامي في المنطقة أن يجعله منطق سياسي مقبولاً لهؤلاء الساسة الذين اغدقوا عليه من ثروات شعوبهم مليارات الدولارات تحت بند الحماية الأمريكية لعروشهم وهذا لم يحدث من قِبل أي رئيس سابق - وبهذه الطريقة التي بدات للكثيرين سمجه - لكنها في حسابات البرجماتيه الأمريكية بلاشك أضافت شئ في حسابات الاقتصاد الأمريكي، كما أن عهده شهد أكبر بيع لصفقات السلاح الأمريكي عبر التاريخ، على سبيل المثال اكثر من 400 مليار دولار في صفقة واحده مع السعودية .
في الملف الإيراني استطاع الرئيس ترمب أن يلغي الإتفاق النووي الذي عقده الرئيس أوباما مع إيران وفرض عقوبات جديدة على إيران في ظل تراجع للموقف الأوروبي الذي كان متفهم لإيران ومعاتباً لرئيس ترمب في بداية الأزمة حين أعلن إلغاء الاتفاق، وهو بهذا كان يدفع إيران إلى خيارين لا ثالث لهما إما أن ترضخ لمطالبه أو أن تختنق طهران أمام ضغط العقوبات الامريكيه المتزايدة وبشكل يؤدي إلى انفجار الشارع في وجه النظام، صحيح أن هذا الأخير تعاطي مع سياسة ترامب بشجاعة ومع بريطانيا العظمى بشئ من الندية الذي تمثل يومها بالحجز المتبادل للسفن بين إيران وبريطانيا إلا أن مسألة الصمود في وجه سياسة ترامب مع تنامي الحصار الخانق كان يعني أن يذهب النظام الإيراني في أحد خياراته تحت هذا الضغط، إلى تفجير حرب في منطقة الخليج « عليا وعلى أعدائي » ومع هذا سوف يجد نفسه في حرب مع أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وامريكا لن تخسر أكثر مما سوف تخسره إيران في حال اندلاع هذه الحرب .
الحديث عن مثل هذا الخيار المتاح أمام النظام الإيراني ليس مجرد تحليل بل كان مطروح على طاولة الرئيس ترمب كاحداد السيناريوهات المحتملة حدوثها خصوصاً مع عودة النفوذ الروسي بقيادة فلاديمير بوتين وانحياز هذا الأخير بشكل واضح مع الصين إلى جانب النظام في طهران وكذلك تنامي النفوذ العسكري والسياسي الإيراني في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، مقابل فشل السعوديه في مواجهة هذا النفوذ، وتحسباً لحدوث هذا اقدم ترمب على إغتيال قاسم سليماني صانع النفوذ الإيراني وقائد قواتها المتموضعة خارج فضاء الدولة الإيرانية، ومع هذه الخطوة فشلت إيران حتى اليوم على إخراج الوجود الأمريكي من العراق أو من المنطقة كما تعهدت به القيادة في طهران كأقل ثمن تدفعه أمريكا جرى اقدامها على مقتل رجل القومية على حد وصفها .
على صعيد القضية الفلسطينية لم يسبق لأي رئيس أمريكي أن تعامل مع ملف القضية الفلسطينية بشجاعه وعدم اكتراث وانحياز واضح تجاه الرغبة الإسرائيلية مثل ما فعل الرئيس ترمب بل أنه أثبت للأمريكيين أن حل القضية الفلسطينية بمنطق الانحياز الأمريكي لدولة إسرائيل لايحتاج لمعجزه كما قال هنري كيسنجر في زمن الكرامة العربية، هذا من جهة أولى ومن جهة ثانية استطاع أن يثبت للأمريكيين أنه قادراً وبكل بساطة على فعل مالم يكن متوقع حدوثه من قبل أي رئيس أمريكي، فالرجل إطلاق العنان بشكل غير مسبوق لسياسية الإستيطان في الضفة الغربية واعترف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ومع ذلك تهاوت الأنظمة العربية على يده رغبة في عقد صفقات سلام مع الكيان الصهيوني الغاصب « قوبيل الإنتخابات الأمريكية » بدلاً من أن تتخذ موقف رافض لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية التى تحولت مع الظاهرة - الترمبية - من دولة وسيطه في عمليات السلام إلى دولة تلبي سياسية الكيان الصهيوني الغاصب، قد يقول قائل ان ترمب استغل الوضع الاستثنائي « الضعف والتفكك » الذي تمر به الأنظمة العربية وحتى شعوبها، لكن هذا قد يكون مبرر مقبولاً لعدم مواجهة هذا الإنقلاب الترمبي على حقوق الشعب الفلسطيني وعلى قرارات الشرعية الدولية، بموقف عربي موحد يقف إلى جانب السلطة الفلسطينية، لكنه ليس مبرراً مقبولاً في أي حال من الأحوال في اندفاع بعض الأنظمة العربية لمكافئة ترامب بالتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب قبل موعد الإنتخابات الأمريكية، بل أكثر من ذلك نجد هذه الأنظمة حزينة اليوم لسقوط الرئيس ترمب في هذه الإنتخابات فهل نستطيع القول أن الرئيس ترمب بهذه الخطوات كان هو صانع المعجزه كمان قال هنري كيسنجر أن حل القضية الفلسطينية تحتاج إلى معجزة ونحن لا ندعي أننا قادرون على صناعة مثل هذه المعجزة .
مهما يكن التعليل فيما حدث فإن إدراة الرئيس ترمب فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ( أهدر حقوق الشعب الفلسطيني بهذه الجراءة مقابل التطبيع العربي مع الكيان الغاصب في نفس الوقت ) كانت بحد ذاتها كافية في أن تجعل جل النخب والجمهور السياسي الأمريكي الذين لا يختلفون في كل الأحوال على دعم الكيان الصهيوني يذهبون للتصويت في صالحه، بهدف منحه فرصة ثانية في رئاسة البيت الأبيض، فلماذا لم يحدث مثل هذا الذهاب رغم ثقه الرئيس ترمب بحدوثه خصوصاً وأنه حرص على أن يتم توقيع وإعلان التطبيع العربي في الشهور القليلة التي تسبق حملته الانتخابية نحو سباق الرئاسة الأمريكية، ناهيك عن حقيقة أن اللوبي الإسرائيلي قد سخر كل إمكانياته المؤثرة في سبيل نصرته، كما أن منافسه الفائز في هذه الانتخابات جون بايدن لا يتمتع بكارزميات وشخصية بيل كلنتون الذي فاز على بوش الأب في انتخابات ال3 من نوفمبر 1992/ واكثر من ذلك لم يكن الحزب الديموقراطي في احسن حال قياساً على وضعه السابق فقد فشل في الانتخابات الاولى والثانيه فى مسألة السيطرة على مجلس الشيوخ، وبعد هذا كله فإن السؤال يقول أين يكمن كعب ترمب الاخيل في هذه الإنتخابات التي خسرها أمام منافسه جون بايدن ؟
في اعتقادي أن نقاط ضعف الرئيس ترمب في هذه الإنتخابات كانت تكمن في سياسته على صعيد الفكرة الوطنية، فالرجل منذ أن فاز في انتخابات 2016/ على منافسته هيلاري كلينتون ظل من حيث لا يدري حبيس نشوة النصر وبشكل جعله عاجز عن أن يقدم نفسه رئيس لكل الامريكين، فلم يحدث أن شهد المجال السياسي والاجتماعي انقساماً حاداً كما شهده عهد ترمب وهذا يعود بطبيعة الحال إلى كونه رئيس أتى من خارج عالم السياسة، هذا من جهة أولى ومن جهة ثانية كانت سياسته على المستوى الوطني في نظر الكثيرين من الأمريكيين تمس فكرة الدولة والوطن، فالرجل في كثير من تصرفاته بدأ يعمل على تجاوز فكرة المؤسساتيه التي تجعل من الساكن في البيت الأبيض رئيس دولة وليس رئيس سلطة، كما أنه في كثيراً من الأحوال بدأ متهم لدى الكثيرين في تغذية حالة الإنقسام الأفقي داخل المجتمع الأمريكي ما جعل بقائه داخل البيت الأبيض في نظر هؤلاء يهدد فكرة الوطن الجامع سياسياً للأمة الأمريكية لهذا سقط ترمب وفاز الرئيس جون بايدن في انتخابات اول ثلاثاء من نوفمبر الجاري 2020 م
فهمي محمد عبدالرحمن
الأكثر مشاهدة
Who's Online
201 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع
الصحة
الدائرة الأخيرة
فيديو كاسل جورنال
الدائرة الأخيرة
الدائرة الأخيرة مع الدكتور عاصم الليثى
الدائرة الأخيرة مع اللواء نبيل أبو النجا
كلمة د/عبير المعداوى فى عيد الشرطة