-
نشر بتاريخ: 01 كانون1/ديسمبر 2020
جزءٌ كبير من مشكلتنا في اليمن والوطن العربي عمومًا لاسيما ــ بعد ثورات الربيع العربي ــ التي رفعت شعار بناء الدولة المدنية الحديثة سوف نجدها إلى حد كبير تتعلق
بمحنة السياسة كفكرة / دنيوية / بشرية / مع المتدينيين فكرياً بالمفهوم الإيديولوجي = { جماعة الاسلام السياسي } بمعنى آخر يجوز لنا أن نقول : أن أحداث الربيع العربي الذي بشر بالخلاص الثوري لما نعيشه من مشكلاتٍ كبرى مع فكرة الاستبداد السياسي المتأصل تاريخياً في ثقافتنا العربية، أصبح في الأساس كاشفاً لعمق المشكلة الثقافية والبنيوية التي تعاني منها السياسية كفكرة مدنية مع المتدينيين فكرياً بنفس المقدار الذي عانته السياسة منذُ قبل مع الأنظمة المستبدة أيديولوجيا ( اشتراكية وقومية إلخ) التى لم تتدثر بالفكرة الدينية ولم تلوح بها في وجه الجماعة المحكومة، لكنها في المقابل مارست على الآخر أشكال من الإستبداد السياسي والفكري واحتكرت المجال السياسي العام تحت مبررات أخرى .
محنة السياسة مع المتدينيين أيديولوجياً تبدو مشكلة معقدة وخطيرة في نفس الوقت على مستقبل الجماعة المحكومة قياساً على محنتها مع المستبدين زمنياً؛ لكون السياسية بجوهرها ومفاهيمها الخالية من الأدلجة والأحادية المطلقة، تعيش مع هؤلاء المتدينين صراعٍ غير متكافئ مع أيديولوجيا صما تدّعي المطلق والحقيقة في وجه الآخر وحتى في وجه المفهوم السياسي نفسه بإسم السماء ، وأكثر من ذلك نجد هذه الأيديولوجيا الدينية تستطيع أن تضيف إلى نفسها قداسة تتعلق بما هو روحي وقيمي وحتى عاطفي في مخيال الجماعة المحكومة، لاسيما وأن المجتمع "غالباً" ما يكون خاضع بالفطرة لتأثير الجملة أو الفكرة الدينية التي يتم تداولها وتوارثها عاطفياً بعد أن تم تحويلها إلى إيديولوجيا مذهبية على يد بشر مفسرين ومجتهدين بمقياس زمانهم الماضوي وفكرهم المغلق وليس بمقياس زماننا الحاضر، ناهيك عن تحويل هذه الأيديولوجية المذهبية إلى عقيدة سياسية قادرة على حشد الناس في معادلة صراعها السياسي كما حدث أيام الدولة العباسية - بموجب الإعلان القادري- ثم تحولت بعد ذلك إلى مشروع سياسي تنظيمي على يد جماعة الاسلام السياسي التي تصدرت مؤخراً المشهد الثوري في زمن الربيع العربي، لهذا نستطيع القول أن الفعل الجماهيري في زمن الربيع العربي لم ينتصر للسياسة كفكرة مدينة جديرة بتقديم الحلول للمشكلة العربية، بل انتصر للايديولوجية أو للآخر المعارض سياسياً وهو ما سهل على جر الثورات إلى العنف والعنف المضاد حتى من داخلها لأن الإنتصار للسياسة كفكرة مدينة لم يكن محل إجماع القوى المحتشدة في مسار فعلها الثوري خصوصاً عند هؤلاء المتدينين أيديولوجياً أو جماعة الاسلام السياسي.
في كل الأحوال لا يمكن أن يشكل الدين في جوهر تنزيله الحكيم حالة ممانعة في مسار التقدم السياسي إلا أن الجملة الدينية عندما يتم تداولها لا بكونها مادة ونصوص تحمل معانٍ واسعة في التنزيل الحكيم تستوعب أحداث الزمان والمكان وتنسجم مع تطورات العصر؛ بل بكونها احكام تعارض مسار التطور الانساني، فذلك يعني أننا نشكل موروث ديني يتحول بعد ذلك إلى حالة ممانعة خصوصاً بعد أن يشكل هذا الموروث نظام ثقافي ومعرفي في المجتمع، وعطفاً على هذا نستطيع أن ندرك مشكلة أو صعوبة الانتصار في الواقع العربي والإسلامي على وجه الخصوص للفعل السياسي الديمقراطي والمدني، لاسيما وأن موروثنا الديني غالباً ما يفرز قوى تعاني من القصور المعرفي والعلمي وتعيش حالة من عدم الإدراك الفكري للخيط الدقيق والفاصل بين ماهو سياسي دنيوي مصدره الإجتماع البشري والمصلحة العامة للجماعة البشرية والإنسانية بغض النظر عن وجود الدين من عدمه، وبين ماهو ديني معتقداتي مصدره آوامر الخالق في السماء ويقتضي من المجتمع الإسلامي التسليم له بالضرورة .
نستطيع القول أن هذه العدمية /المعرفية / الفكرية/ في الإدراك السياسي هي المسؤولة في الأساس عن وجود المشكلة ابتداءً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ، أقصد بالمشكلة محنة السياسة كفكرة مدنية بطبعها وفعلها، مع المتدينين فكرياً بالمفهوم الأيديولوجي ={ المذهبيي} الأحادي والمطلق الذي دائما ما يتعامل مع تقديم أو تصوير الحلول السياسية الناجعة لمشاكل المجتمع العربي = { مخرجات الحوار ، دولة مدنية ، دولة إتحادية ... مثلاً } بكونها تبدو متعارضة مع الدين الإسلامي بعد أن تم تحويل هذا الأخير في مرحلة تأريخية على يد علماء الدين إلى إيديولوجيات مذهبية ممانعة ومتعددة بتعدد أسماء الجماعات المتدينة أيديولوجياً = / سلفية / حوثية / إخوانية / ذلك على سبيل المثال في مجتمعنا اليمني وليس الحصر .
ما يجب أن ندركه جميعًا : أن فكرة الدول وحتى مسألة بناء الأوطان التي نحلم بهما جميعاً، دائماً يتم بنائهما بفعل سياسي عقلاني مدني وديمقراطي محض، وإمكانية النجاح في ممارسة هذا الفعل السياسي واقعيًا يشترط وجود مجتمع تجذرت فيه قيم المدنية والحرية وبشكل يجعل منهما نظام معرفي وثقافي عام = { عقل جمعي } ما يعني في النتيجة النهائية أنه يتوجب على مستوى الفكر والممارسة ضرورة العمل على فض حالة الإشتباك القائمة تأريخياً بين الفكرة السياسة كمفهوم إنساني بشري وبين الفكرة الدينية كمعتقد سماوي ، لاسيما ــ عند هؤلاء المتدينيين بالمفهوم الأيديولوجي .
عندما أتحدث هنا وبالتحديد عن المتدينيين أيديولوجياً لا يعني قط أن الآخرين قد أصبحوا ديمقراطيين أو أن السياسة لا تعاني محنة كبيرة معهم وهي بلاشك قد عانت الكثير معهم في الماضي وحتى في الحاضر؛ بل ما أقصده على وجه التحديد ( أن السياسة مع هؤلاء المتدينيين تعاني من محنة مضاعفة )؛ بحيث لاتستطيع مطلقاً أن تعبر عن نفسها بكونها مسألة دنيوية مدنية نفعية وجدليه تقتضيها وتفرظها مصلحة الجماعة المحكمومة بـ اعتمالاتها وتفاعلاتها الإجتماعية، أو بمعنى آخر : تجد السياسة نفسها مع هؤلاء المتدينين "مؤطرةً" بما هو متعالى ومقدس وحتى غيبي ، في حين أن جوهر السياسية وحتى فعلها السياسي لا تعد أن تكون آلية أو أفكار عقلية بشرية مدنية عملية تتعلق بإدارة المجتمع الإنساني دنيوياً نحو المستقبل وليس نحو الجنة أو النار لاسيما بعد أن تحول وجود الفرد على سطح الجغرافية إلى جماعة سياسية إنسانية تعي ذاتها الجمعية وتحمل الكثير من التجانس الضروري في المصالح المشتركة وحتى الصراع المستمر على هذه المصالح في نفس الوقت .
فالسياسة بأي حال من الأحوال لا تحمل ماركة دينية ولا تقف عند حدود الدين كما لا يمثل هذا الأخير مصدراً لوجودها الحتمي؛ بل هي تتجاوز مسألة الإنتماء الديني إلى ما هو إنساني واجتماعي محض ، فهي تتعلق بوجود الجماعة الإنسانية كمخلوقاتٍ على الأرض لاسيما ــ في تطوراتها وصيرورتها الجمعية ــ ولا تتعلق بأي حال من الأحوال بوجود الدين كأيديولوجية أو كمعتقد مطلق وأحادي يميز أمة من الأمم عن أخرى أو شعب من الشعوب عن بقية شعوب العالم ،
فالسياسية من مسائل الضرورة في أي مجتمع مسلم أو غير مسلم ، بل هي مطالبه بتقديم الحلول الناجعة وقد نجحت في تقديمها داخل المجتمعات الملحدة والعلمانية أكثر من نجاحها داخل المجتمعات الإسلامية التي تدعي أنها على الصراط المستقيم في حين أنها تصنف في قائمة الدول الفقيرة والمجتمعات الفاشلة على مستوى العالم،
ومع أن هذا الفشل لا يتعلق بمسألة وجود الدين الإسلامي الذي نؤمن بكل ما ورد في تنزيله الحكيم من آيات صادقة أولها تلك التي تؤكد دنيوية المسألة السياسية وبشرية مصدرها واعتمالاتها ={ وأمرهم شورى بينهم / وشاورهم في الأمر }؛ بل يتعلق الفشل بما لم يحايث هذا الدين الإسلامي العظيم في مجتمعنا العربي والإسلامي من تحول مدني عقلاني على المستوى السياسي والثقافي والفكري المرتبط بالبعد الإجتماعي والإنساني منذ بواكير الدولة الإسلامية وحتى اليوم، بمعنى آخر أن مسألة التدافع السياسي الديمقراطي بعيد عن سيطرة الدين والسلطان تكاد تكون منعدمة في تجربتنا التاريخية .
ما حدث عند الشعوب الأخرى وتأخر كثيراً حدوثه في واقعنا العربي لاسيما ــ عند هؤلاء المتدينين أيديولوجياً ــ هو ذلك التحول الفكري والثقافي والمعرفي وحتى الفلسفي العقلاني الذي أدى إلى تحرير المسألة السياسة من سيطرة اللاهوت والإستبداد أو سيطرة الدين والسلطان وذلك من ثلاث زوايا بدت غاية في الأهمية = فهي تحررت أولا ً بكونها فكرة مدنية بجوهرها ، وبكونها ثانياً أفكار دنيوية بشرية المصدر والمرجعية بطبعها ، وبكونها ثالثاً ممارسة عقلية تتعلق بنجاعة الحلول الواقعية لمشاكل المجتمع والتي تقاس "دائما" بمقياس بشري دنيوي = الخطأ والصواب وليس بمقياس ديني أخروي = الحلال والحرم .
عن طريق تلك الإعتمالات والتحولات - الفكريه / العقلانية - التي حررت مفهوم السياسة في بعض التجارب الإنسانية مما هو غير سياسي استطاعت السياسة أن تمارس دورها الوظيفي الناجع تجاه المجتمع الإنساني = { تسييس السياسية } وأن تصنع مجالها السياسي العام؛ بل استطاع الفكر السياسي العقلي وبدون وصاية متعالية دينية وبعيداً عن مفهوم القوة والغلبة أن يؤسس "تلقائيا" قنوات سياسية مشروعة وطبيعية داخل بنية السلطة ومؤسسات الدولة لممارسة الفعل السياسي المدني والديمقراطي وحتى التعددي على المستوى الثقافي والإجتماعي والذي من خلالهما تأسست الدولة الوطنية وحتى الدولة المدنية داخل فضاء سياسي واسع أي المجال السياسي العام والمفتوح أمام المكونات الإجتماعية والسياسية .
فهمي محمد عبد الرحمن
الأكثر مشاهدة
Who's Online
83 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع
الصحة
الدائرة الأخيرة
فيديو كاسل جورنال
الدائرة الأخيرة
الدائرة الأخيرة مع الدكتور عاصم الليثى
الدائرة الأخيرة مع اللواء نبيل أبو النجا
كلمة د/عبير المعداوى فى عيد الشرطة