لم أكن أدري إن كنتُ نائمًا أم مستيقظًا، لكنني كنتُ أطير. لا أمشي كما يفعل البشر، بل أطير بسلاسة كما لو أن الهواء طريقٌ تحت قدمي. حولي فضاء لا تحده جدران، لا سقف له سوى زرقة ممتدة، ولا أرض تحتي سوى امتداد لا نهائي من الضوء والظلال.
وكانت هي هناك، تسبح في الهواء كما لو وُلدت بجناحين خفيين، تضحك بوجه مشرق يفيض بالطمأنينة، تشير بيدها نحو اتجاه لم أعرفه، وتقول بصوتها العذب: “من هنا.”
لم أسأل إلى أين، كنت أعرف في أعماقي أنني لا أحتاج إلى السؤال، يكفيني أن أتبعها. كنتُ أطير حولها، كظلٍ يحميها من كل ما قد يعترض الطريق، كريح تلتف حول زهرة، تخشى عليها حتى من النسيم. وكان ضحكها صدًى يمتد في الأفق، وكأن الهواء نفسه يغني بصوتها. أحاول أن ألتفت لأرى وجهتنا، لكن الأفق يظل بلا معالم، سوى نور بعيد، بعيد كأنه سرٌّ لم يُكشف بعد. وأنا… لم أكن أبحث عن الطريق، بل كنتُ أبحث عنها، عن وجهها، عن بريق عينيها وهما تتسعان بالفرح، عن الأمان الذي تنثره حولها دون أن تدري. كلما اقتربتُ منها، كلما أحسست أنني أكتشف نفسي من جديد، أنني لستُ مجرد طائر في هذا الحلم، بل حارسٌ لسرها، ظلٌ لحلمها، نبضٌ يحوم حولها دون أن يبوح. وفجأة، توقفنا أمام شيء لم أره بوضوح، لكنني شعرت به. شيء كان ينتظرنا عند تلك النقطة حيث ينتهي الفراغ ويبدأ الوجود.
استدارت نحوي، عيناها تلمعان بحكمة لم أفهمها، ابتسمت، وقالت للمرة الأخيرة: “من هنا.”
لكنني لم أتبِعها هذه المرة… بل استيقظت.
نهضتُ لأجد الغرفة ساكنة، لا ضوء سوى شحوب الفجر يتسلل عبر النافذة. لكنني كنتُ أشعر بشيء مختلف، كأنني عدت من رحلة حقيقية، كأنني لم أكن أحلم، بل كنتُ هناك… أطير معها، أراها تضحك، أحميها بصمت، وأتبعها نحو طريق لم أتعرف عليه بعد، لكنه كان حتميًا، كما لو أن قلبي عرفه منذ الأزل.
—–
حين استيقظت في السماء
بقلم الكاتب / أحمد المندراوي