بقلم الدكتورة عبير المعداوي
في عصرٍ تسرع فيه الأخبار لتلتهم الانتباه، تصبح الدقة المهنية مسؤولية أخلاقية لا تقل أهمية عن مضمون الخبر نفسه. ما نشرته بعض المنصات مؤخراً عن “ارتفاع علاقات نساء مصر بالذكاء الاصطناعي” لا ينتمي إلى فضاء البحث العلمي بقدر ما ينتمي إلى مرمى الدعاية والتوظيف الأيديولوجي.
بحكم خبرتي المهنية لعقدين في الفضاء الرقمي، أرى في مثل هذه العناوين محاولة مزدوجة:
استغلال الخوف من التغيير، واستهداف مكانة المرأة في المجتمع.
أولاً، الحقيقة العلمية واضحة:
لا توجد دراسات منهجية وموثقة تختص بمصر تُثبت هذا الادعاء. ما ثبُت في الأدبيات هو ظاهرة عالمية — حالات فردية أو مجموعات محدودة تتفاعل عاطفياً مع تطبيقات أو شات بوتس — لكن لا دليل على تعميم وطني. لذلك فالادعاء ليس خطأً فحسب، بل تزوير معرفي يضع الإعلام في موقف الضالّ عن دوره الرقابي.
ثانياً، من غير البنّاء اختزال علاقة الإنسان بالتقنية إلى “خطيئة” أو “مرض”. العاطفة، والصداقة، والاعتماد النفسي على أدوات تواصل ليست جريمة؛ بل هي انعكاس لمسارات تطور اجتماعي وتقني نحن بصدد فهمها وتنظيمها أخلاقياً. الأهم أن نُطوِّع البحث العلمي لصالح العدالة والحماية، لا لسوق الشائعات.
أخيراً، الدفاع عن العلم لا يعني تبنّي تقنية بلا نقد؛ بل الدعوة إلى بحثٍ مسؤول يراعي الخصوصيات الثقافية، ويصون كرامة الإنسان، ويُسائل أنماط السلطة. على الصحافة أن تقود حملة تصحيحية: تحقق، وفحص مصادر، وفضح الأغراص السياسية خلف الشائعات. هذه مهمتنا — أن نحمي المجتمع من التضليل ونصون العقل العام بالعلم والأدب والضمير.
العلم لا يُشترى بعناوين مثيرة؛ الحُجة تحتاج دليلًا، والكرامة تحتاج صحافة صادقة.”
دراسة غير صحيحة تروج لأيدلوجية مزدوجة المعايير
في الآونة الأخيرة، تداولت بعض المنصات الإعلامية العربية خبرًا مثيرًا يدّعي أن “نساء مصر يقمن بعلاقات غرامية متزايدة مع الذكاء الاصطناعي”، مستندة إلى دراسة لم يُذكر مصدرها بوضوح. هذا الادعاء، الذي قُدّم بصياغة أقرب إلى الإثارة الصحفية منه إلى البحث العلمي، يكشف عن ثلاث إشكاليات أساسية: غياب المرجعية الأكاديمية، تضليل الرأي العام، والتوظيف السياسي الموجَّه ضد المرأة المصرية.
أولًا: غياب السند العلمي
حتى اليوم، لا توجد أي دراسة أكاديمية منشورة أو موثقة تخص مصر في هذا المجال. معظم الأبحاث العالمية، مثل الدراسات الصادرة عن جامعات أميركية وأوروبية، تناقش الظاهرة بشكل عام دون تخصيص دولة معينة. ما يتوفر في الأدبيات العلمية هو الحديث عن أن بعض الأفراد، في سياقات متعددة، قد يكوّنون علاقات عاطفية أو وجدانية مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي (مثل Replika). لكن هذه الحالات تُدرَس كظواهر اجتماعية عامة، لا كسمات خاصة بدولة أو مجتمع بعينه.
ثانيًا: البعد الأيديولوجي والسياسي
طرح مثل هذا الخبر في سياق “نساء مصر” ليس بريئًا. فاستهداف المرأة المصرية إعلاميًا يندرج ضمن محاولات مستمرة لتقويض صورتها الاجتماعية والثقافية، وإبرازها كـ”نموذج هش” أمام التطور التكنولوجي. هنا يتحول الإعلام من ناقل للخبر إلى أداة سياسية وأيديولوجية، تُوجَّه ضد هوية المرأة المصرية التي لطالما ارتبطت تاريخيًا بالوعي الاجتماعي والقدرة على التكيف مع تحولات العصر.
ثالثًا: الفلسفة المستقبلية للعلاقة بين الإنسان والآلة
الأمر الأهم هو أن العاطفة أو الصداقة مع الذكاء الاصطناعي ليست عيبًا أو خطيئة، بل هي انعكاس طبيعي للتطور التكنولوجي الذي سيقود في السنوات القادمة إلى إدماج الشرائح الإلكترونية في البشر، وإضافة خلايا إنسانية في الروبوتات، مما سيُحدث طفرة في ما يمكن تسميته بـ”الذكاء الاجتماعي الهجين”. نحن مقبلون على عصر لن تعود فيه الحدود بين الإنسان والآلة صارمة، بل سيظهر كيان جديد تتقاطع فيه المشاعر البشرية مع قدرات الذكاء الاصطناعي.
خاتمة
إن الصحافة المسؤولة، كما نؤمن في Castle Journal، تقتضي فضح الأخبار المضللة، وإبراز خطورتها على وعي المجتمعات. إن الادعاء بأن نساء مصر في طليعة من يقمن بعلاقات غرامية مع الذكاء الاصطناعي ليس سوى محاولة لإعادة إنتاج خطاب استشراقي جديد بأدوات تقنية. وواجبنا كإعلاميين هو أن نُذكّر القراء أن الحقيقة لا تُبنى بالعناوين المثيرة، بل بالبحث العلمي الرصين، وبالدفاع عن صورة الإنسان في مواجهة التشويه المتعمد.
⸻——
لندن المملكة المتحدة البريطانية- صحيفة سي جاي العربيه