بقلم القس بولا فؤاد رياض
لا توجد شخصية دينية تحظى بإجماع وجداني مثل السيدة العذراء في قلوب المصريين، مسلمين ومسيحيين على السواء. فقد تغلغلت صورتها في القصص الشعبية، وفي الأدب والفن والموروث الشعبي، وصارت أديرتها مثل دير جبل درنكة ودير المحرق بأسيوط ودير جبل الطير بالمنيا مقاصد للزيارة للجميع من مختلف أنحاء الجمهورية. وفي مصر، البلد الوحيد الذي تسمع فيه المسلم يقول في دعائه: «شا لله يا عدرا»، «بركة أم النور»، «يا أم النعمة يا عدرا». وهي عبارات مصرية خالصة تعبّر عن شعور روحي مشترك يتجاوز العقائد.
أما الاحتفالات التي تقام في أديرة العذراء طوال فترة صومها، الذي يبدأ في ٧ أغسطس ويستمر حتى عيد صعودها إلى السماء في ٢٢ أغسطس، فهي مشاهد مبهجة حيث تتردد الترانيم والصلوات في الكنائس، وتعلو الزغاريد في المواكب، وتنبض القلوب فرحًا وتضرعًا. فالسيدة العذراء لم تكن فقط قديسة المسيحيين، بل كانت وما تزال رمزًا للوحدة الوطنية وعنوانًا للتقوى والطهارة في ضمير الأمة المصرية بكل أطيافها.
العذراء مريم في القرآن الكريم:
اختص القرآن الكريم السيدة العذراء مريم بتكريم لم تحظَ به امرأة أخرى، فجعل اسمها عنوانًا لسورة كاملة هي مريم، ورفعها إلى مقام الطهر الكامل والاصطفاء الإلهي، فقال تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾ (آل عمران ٤٢).
ووصفها في موضع آخر بالصديقة، أي كثيرة الصدق، فقال: ﴿وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٌۭ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ ٱلطَّعَامَ﴾ (المائدة ٧٥).
ووصفها أيضًا بأنها التي أحصنت فرجها إشارة إلى طهارتها العظيمة، فقال: ﴿وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَٰنَ ٱلَّتِىٓ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَٰنِتِينَ﴾ (التحريم ١٢).
وجاء في الحديث الشريف أن مريم سيدة نساء العالمين. فقد ورد في الصحيحين عن النبي أنه قال: «خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد». وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد وابن حبان وصححه الألباني قال النبي: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». وجاء في حديث رواه الإمام مسلم: «ما من مولود يولد إلا مسّه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخًا من مس الشيطان، إلا مريم وابنها».
قال العلماء المسلمون عن العذراء: ذكر الإمام القرطبي في تفسيره: «لم تُذكر امرأة في القرآن بالاسم إلا مريم، وهذا يدل على مكانتها وعظمتها، وقد جمع الله لها الطهارة والتقوى». وقال ابن كثير: «كانت مريم من أعبد الناس في زمانها، وكان زكريا إذا دخل عليها المحراب وجد عندها رزقًا من الله، فهي أولى النساء بالتكريم الرباني». أما السيوطي فقال في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ﴾: «أي طهرك من الأدناس والمعاصي، وخصك بما لم يخص به امرأة أخرى».
السيدة العذراء في العقيدة المسيحية:
أما في العقيدة المسيحية فهي الأم البتول، أم الكلمة المتجسد التي لم يعرفها رجل، الممتلئة نعمة، والتي قالت في أنشودة تسبيحها الخالدة: «تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلّصي، لأنه نظر إلى اتضاع أمته. فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني» (لوقا ١: ٤٦-٤٨).
فضائل العذراء مريم:
حياة العذراء مريم كانت كنزًا للفضائل وفخرًا للبشرية. فهي عاشت الاتضاع قائلة: «هوذا أنا أمة الرب» (لوقا ١: ٣٨).
١ – فضيلة الاحتمال
احتملت اليتم منذ صغرها، ثم حياة الوحدة في الهيكل، ثم الفقر حين وضعت ابنها في مذود (لوقا ٢: ٧). كما احتملت مسؤولية عظيمة وهي صغيرة السن، واحتملت السفر الشاق إلى مصر، وأخيرًا احتملت الألم العظيم حين «جاز في نفسها سيف» (لوقا ٢: ٣٥) بسبب آلام ابنها وموته على الصليب.
٢ – فضيلة انكار الذات
وقدّمت مثالًا في إنكار الذات، حين قالت ليسوع: «هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذَّبين» (لوقا ٢: ٤٨)، مع أنها تعرف أنه ابن الله، لكنها قدّمت يوسف على نفسها. وكانت خادمة للآخرين إذ ذهبت إلى أليصابات لتخدمها ثلاثة أشهر رغم أنها «أم المسيح» (لوقا ١: ٣٩-٥٦). وهي المؤمنة التي طوّبها أليصابات قائلة: «طوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب» (لوقا ١: ٤٥).
٣ -العذراء المصلية
العذراء كانت مصلّية منذ طفولتها في الهيكل، وهي النقية التي نالت التطويب: «طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله» (متى ٥: ٨). وقد عاينت الله الكلمة المتجسد، وسمعت سلام الملاك: «سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك» (لوقا ١: ٢٨).
٤ – العذراء الحكيمة
وكانت الحكيمة التي «كانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها» (لوقا ٢: ١٩).
القاب السيدة العذراء
مثل ام المخلص، أم الفادي ومن ألقابها المحببة “أم النور”، وقد ارتبط هذا اللقب بتقليد قديم نسب إلى القديس يوحنا ذهبي الفم، إذ ظهرت له العذراء في رؤيا، ومنذ ذلك الحين شاع هذا اللقب.
وقد قال عنها الآباء:
«السماء حملت الشمس، ومريم حملت من صنع الشمس، فاقت مريم السماوات لأنها حملت خالقها في أحشائها» (مار أفرام السرياني).
«العذراء لا يعرف أحد أن يسميها: هل يسميها عذراء؟ ابنها هناك. هل يسميها متزوجة؟ لا رجل قد عرفها. الكلمة دخلها فصار صامتًا داخلها» (أحد الآباء).
وقال البابا شنوده الثالث: «إننا لا ننظر إلى العذراء مريم كقديسة عظيمة فقط، بل كأم، وليست كأم عادية، بل أم قادرة رحيمة معينة».
وقال القديس كيرلس الكبير: «السلام لمريم والدة الإله، الكنز الثمين الذي وجده العالم، المصباح غير المنطفئ، التاج الباقي، الهيكل غير المفهوم، الموضع الذي احتوى غير المحتوى، الأم الباقية عذراء».
واسعدنا واثلج قلوبنا كلمة سيادة اللواء دكتور هشام ابو النصر محافظ أسيوط
في الاحتفالات بصوم السيدة العذراء بدير درنكه بحضور نيافة الانبا يؤانس مطران اسيوط حيث قال في كلمته:
كل سنه وحضراتكم ومصر طيبة.
يسعدني ويشرفني ان أبلغكم تهاني فخامة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية
بهذه الإحتفالية العظيمة واليوم المبارك
إن العذراء مريم لها في قلبي وقلب المصريين وقلب العالم معزة خاصة جدا
ويسعدني أن اخبركم بأن صورتها لم تفارق بيتنا وصدر أمي منذ أن ولدت!
ونتمنى ان جميع المسؤولين يحذو حذو هذا المحافظ لوطني الذي يرسخ لقيم المواطنة الحقيقية بين ابناء الوطن الواحد
ولقد أسعدنا هذا العام حضور شخصيات رفيعة المقام في احتفالات العذراء، كما أسعدنا اهتمام التلفزيون المصري بإعداد تقارير عن صومها ومشاركة الجميع فيه.
وفي كل عام لا نحتفل فقط بصوم العذراء، بل نحتفل بأننا ما زلنا قادرين أن نجتمع حول ما هو طاهر، وأننا حين نرفع أعيننا إلى السماء نجد السيدة العذراء تلمع هناك كأيقونة مصرية تخبرنا أن الخير ما زال مقيمًا، وأن مصر ستبقى وطنًا للرحمة والقداسة والضمير الحي.
كل عام ومصرنا الغالية في حضن العذراء.
بقلم القس بولا فؤاد رياض
كاهن كنيسة مارجرجس المطرية