Some Populer Post

  • Home  
  • “الماء الذي لا يُهزم:فلسفة المفكرة عبير المعداوي و حكمة إيب مان
- الفلسفة العالمية - الأدب

“الماء الذي لا يُهزم:فلسفة المفكرة عبير المعداوي و حكمة إيب مان

لقاء النيل بالتنين بقلم المستشار/ احمد المندرواي ** صوت النهر الذي لا يشيخ:هناك لحظات في الحياة تفرض عليك أن تتوقف، لا لأن الطريق مسدود، بل لأنك تريد أن تصغي لصوت أعمق من ضجيج العالم.ذلك الصوت قد يأتيك من الريح، أو من صمت الجبال، أو من جريان النهر في حضن وادٍ قديم.ولمن يعرف كيف يُصغي، فإن […]

IMG 0388

لقاء النيل بالتنين

بقلم المستشار/ احمد المندرواي

** صوت النهر الذي لا يشيخ:
هناك لحظات في الحياة تفرض عليك أن تتوقف، لا لأن الطريق مسدود، بل لأنك تريد أن تصغي لصوت أعمق من ضجيج العالم.
ذلك الصوت قد يأتيك من الريح، أو من صمت الجبال، أو من جريان النهر في حضن وادٍ قديم.
ولمن يعرف كيف يُصغي، فإن الماء ليس مجرد سائل يروي العطش، بل كائن حكيم يكتب فلسفته على صفحة الزمن، بلا حبر، بلا خطب، بلا ضوضاء.

ومن بين الذين امتلكوا حسّ الإصغاء لهذا الكائن، تقف المفكرة والروائية الدكتورة / عبير المعداوي، التي لم تنظر إلى الماء كعنصر من عناصر الطبيعة فحسب، بل رأته معلمًا للوجود، وسيدًا لفنون البقاء، وصانعًا لمجراه حتى حين تتشابك أمامه العوائق.

 في كتاباتها، تكتشف أن الماء لا يُقاد، بل يقود؛ لا يُعطي قوته إلا لمن يفهم لينه، ولا يمنح مياهه إلا لمن يدرك أن صفاءه نتاج صبره الطويل في مواجهة الصخور. تقول:

“الماء هو من يصنع المجرى الذي يختاره لنفسه، وليس المجرى هو من يصنع مصبه.”

هذه العبارة وحدها تصلح أن تكون وصية حياة، لكن جمالها يتضاعف حين نجد لها انعكاسًا في شخصيات وتجارب بشرية حقيقية أو متخيلة.
وهنا، من أقصى الشرق، يطل علينا إيب مان، معلم الـ Wing Chun، الذي جسّد في مساره كثيرًا مما كتبته المعداوي في فلسفة الماء، وإن لم يلتقيا قط.

كلاهما – الماء كما تصفه المعداوي، وإيب مان كما تجسده السينما الصينية – علّماني أن الحياة ليست نزالًا لإثبات القوة فحسب، بل فنّ اختيار المجرى، وتحديد المصب، والبقاء نقيًا وسط الطين.

** فلسفة الماء كما كتبتها الدكتورة عبير المعداوي:
قبل أن نمضي في المقارنة، دعونا نترك المجال لصوتها كما كتبته، بكل وضوحه وعمقه:
“في فلسفة الماء التي انتهج خطواتها بالتزام و أكتب عنها و أشير إليها في كتبي…
خسر من لم يشتريني كما لم يبيعني،
وتساوى مع من فرّط فيني لأجل مصلحته،
وانحدر من مرتبته العالية ليسقط محل الصديق المتلون الذي لا يُؤتمن، وما أكثرهم حولنا.

ومن فلسفة الماء… الماء هو من يصنع المجرى الذي يختاره لنفسه وليس المجرى هو من يصنع مصبه. الماء أقوى من التراب… فلا يصدق نفسه من يلمع في السراب ويظنه العطشان أنه بركة ماء.

ومن فلسفة الماء… لكل بداية نهاية… قد يبدو من الأفق البعيد أن المجرى غير مستقيم، لكن من يدقق النظر سيتعلم أن الماء هو الذي يصنع الطرق المستقيمة التي تسير عليها السفن.

ما أعظم ربي وخلقه، وسبحان من كان عرشه على الماء.”

 هذا النص ليس تأملاً عابرًا، بل خريطة مسار، تصلح أن تُحمل في القلب كما يحمل الملاح بوصلة البحر.

** حين يختار النهر طريقه
تقول المعداوي:
“الماء هو من يصنع المجرى الذي يختاره لنفسه، وليس المجرى هو من يصنع مصبه.”

في المشهد الافتتاحي من الجزء الأول من إيب مان، نراه في بيته يستقبل خصمًا جاء ليختبر مهارته.
الغرفة ضيقة، والأثاث يحيط بهما، لكن كل خطوة لإيب مان كانت بحساب. لم يدعه المكان الضيق يفرض عليه الإيقاع، بل جعل من كل زواية نقطة ارتكاز.

مثل النهر حين يلتف حول الصخور، صنع مجراه بنفسه، فلم يكن المسار منحة من المكان، بل قرارًا من إرادته.

** السراب الذي يلمع:
في زمن الاحتلال الياباني، عرض عليه أحد الضباط منصبًا وامتيازات مقابل الولاء. كان المشهد مهيأً لضعف القلب، لكن عينيه ظلتا صافيتين.

المعداوي تحذر:
“لا يصدق نفسه من يلمع في السراب ويظنه العطشان أنه بركة ماء.”

إيب مان رأى وراء لمعان العرض جفافًا أخلاقيًا، فتركه ومضى، محتفظًا بعطشه النبيل للكرامة.

** قوة الماء على اليابسة:
أشهر لحظات السلسلة هي قتاله ضد عشرة مقاتلين يابانيين دفعة واحدة.
لم يكن الأمر مجرد عضلات، بل تدفق ذكي. كان يلتف حول الضربات ويعيدها، كتيار ماء يلتف حول صخور صلبة ثم يواصل طريقه، حتى صارت الصخور نفسها أداة لدفعه إلى الأمام.

وهنا تصدح عبارة المعداوي:
“الماء أقوى من التراب.”

** لكل بداية نهاية:
بعد الانتصار، لم يطارد البقية. اكتفى باللحظة التي بلغ فيها التيار غايته.

المعداوي تذكرنا:
“لكل بداية نهاية.”

النهر لا يفيض إلا بقدر حاجته، وإيب مان لم يجعل القتال غاية في ذاته، بل وسيلة لحماية ما يجب حمايته.

** المجرى الجديد في هونغ كونغ:
في الجزء الثاني، فتح أبواب الـ Wing Chun للجميع في وجه احتكار البريطانيين. كان ذلك شبيهًا بفتح النهر مجرى جديدًا نحو أرض عطشى.

المعداوي تقول:
“الماء هو الذي يصنع الطرق المستقيمة التي تسير عليها السفن.”

وهكذا صنع إيب مان طريقًا جديدًا يسير عليه طلابه.

** مواجهة الصديق المتلون:
في الجزء الثالث، واجه رجال أعمال يبدون أصدقاء في العلن، لكنهم يطعنون في الخفاء. المعداوي تعرفهم جيدًا:
“الصديق المتلون الذي لا يؤتمن.”

إيب مان لم ينجرف معهم، بل ظل صافيًا، كالنهر الذي يرفض أن يختلط بالطين.

** البحر البعيد:
في الجزء الرابع، واجه عنصرية ونظرة استعلاء لفنونه. لكنه، كماء يتشكل في أي إناء، تكيف دون أن يتخلى عن نقائه.

** الجذر الروحي:
حين تقول المعداوي:
“سبحان من كان عرشه على الماء.”

نلمس أن فلسفتها ليست فقط تقنية للبقاء، بل لها جذور روحية. وإيب مان، وإن لم يعلن عقيدة، جسد هذا البعد في التزامه الأخلاقي العميق.

** كيف نصير ماءً؟
الجمع بين فلسفتي معالي الدكتورة/ عبير المعداوي وإيب مان يعلّمنا أن نصبح ماءً:

نصنع مجرانا بأنفسنا.

لا ننخدع بالسراب.

نكون مرنين وأقوياء في الوقت نفسه.

نعرف متى نتوقف.

ونحافظ على صفائنا مهما تعكّر العالم من حولنا.

إنها ليست مجرد مقارنة بين مفكرة مصرية ومحارب صيني، بل لقاء بين نهرين من الشرق، أحدهما من حبر الفكر، والآخر من عرق القتال، لكن كليهما يصب في بحر الإنسانية.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

نبذة عنا

صحيفة سي جاي العربية هي واحدة من اهم اصدارات شركة Castle Journal البريطانية الدولية لانتاج الصحف والمجلات و مقرها لندن – المملكة المتحدة البريطانيه.

CJ  العربية © Published by Castle Journal LTD.