Some Populer Post

  • Home  
  • نحن أقلام لها جذور… لكن ليس لها رأس.. عبير المعداوي
- النقد - الأدب

نحن أقلام لها جذور… لكن ليس لها رأس.. عبير المعداوي

قراءة نقدية في ادبيات و فلسفة الأدبية عبير المعداوي بقلم المستشار/ أحمد المندراوي   مقولة مجازيه قالتها الاديبة د عبير المعداوي في معرض حديثها عن وضع الاقلام المفكرة و المبدع العربي في زمنٍ يكتب فيه الجميع، لكن قليلون من يصنعون المعنى، ليطلّ علينا هذا المجاز العجيب كمرآة تكشف هشاشتنا: قالت المعداوي؛ “نحن أقلام لها جذور… لكن […]

IMG 4474

قراءة نقدية في ادبيات و فلسفة الأدبية عبير المعداوي

بقلم المستشار/ أحمد المندراوي 

 مقولة مجازيه قالتها الاديبة د عبير المعداوي في معرض حديثها عن وضع الاقلام المفكرة و المبدع العربي في زمنٍ يكتب فيه الجميع، لكن قليلون من يصنعون المعنى، ليطلّ علينا هذا المجاز العجيب كمرآة تكشف هشاشتنا:

قالت المعداوي؛

“نحن أقلام لها جذور… لكن ليس لها رأس”

و تعني بهذا نحن أقلام غُرست جذورنا في عمق الأرض، في تراب الذاكرة، في مياه الحلم الأولى، لكننا نفتقد الرأس الذي يخطّ الكلمة الأولى.

نحمل في أعماقنا الحبر، نحفظ القصص في أنسجتنا، نعرف تمامًا ما نريد قوله… لكن المسافة بين الفكرة وأثرها على الورق باتت طويلة كمنفى، ضبابية كطريقٍ بلا علامات.

هكذا نصبح أقلامًا بلا رأس — كائنات على وشك الكتابة، لكنها عالقة عند حافة الصمت، كأشجار تعرف أنها قادرة على الإزهار، لكنها لا تجد الربيع.

هذه الجملة التي قالتها معالي د. عبير المعداوي ليست مجرّد استعارة، بل هي دعوة إلى أن ننظر في المرآة ونطرح السؤال المؤلم: ماذا نفعل بجذورنا إذا كانت رؤوسنا مفقودة؟

    في عالم يفيض بالصور والمجازات، أحيانًا تأتي جملة واحدة لتُشعل فينا شرارة الفكر، وتدفعنا إلى الغوص في أعماق المعنى.

           “نحن أقلام لها جذور لكن ليس لها رأس” 

    ليست مجرد صورة لغوية جميلة، بل هي استعارة كاشفة عن حالة وجودية وفكرية وإنسانية.

    هذه الجملة تضعنا أمام مشهد غريب: 

         قلم ثابت الجذور، ممتد في الأرض أو في الذاكرة أو في التاريخ، لكنه بلا رأس — أي بلا سن الكتابة، بلا أداة للتعبير المباشر.

    هنا تبدأ الأسئلة: هل نحن أصحاب ثبات فكري وجذور حضارية، لكننا فقدنا القدرة على صياغة رؤيتنا للعالم؟ 

أم أننا نملك الانتماء والهوية، لكننا محرومون من آلية التأثير؟ 

أم أن الجذور رمز للماضي والهوية، وغياب الرأس رمز لانقطاع الحاضر عن المستقبل؟

أولًا: الجذور كهوية:

      الجذور في المخيال الإنساني هي مصدر الثبات والقوة، وهي ما يمنح الكائن صلابته أمام العواصف. في الفلسفة، الجذر هو امتداد الكينونة في الزمن، ارتباطها بالأصل الذي يمدها بالمعنى.

حين نقول “أقلام لها جذور”، فنحن نتحدث عن أقلام ليست طارئة، ليست وليدة لحظة، بل لها تاريخ من المعاناة، والتجربة، والمعرفة المتراكمة. إنها جذور في التراث، في الثقافة، في الذاكرة الجمعية، وربما في التجارب الشخصية المؤلمة والمُلهمة.

    لكن الجذر وحده لا يكفي. الشجرة ذات الجذر القوي إن لم تُزهر وتثمر تبقى حكاية ناقصة. كذلك القلم — جذوره قد تكون في الفكر، أو المبادئ، أو الرسالة، لكن بدون الرأس الذي يكتب، يبقى القلم عاجزًا عن أداء وظيفته.

ثانيًا: الرأس الغائب:

        غياب الرأس في القلم يعني غياب نقطة الاتصال بين الفكرة وتجسيدها. الرأس هو ما يحوّل الحبر إلى كلمة، والفكرة إلى نص، والرؤية إلى رسالة تصل إلى الآخر.

من منظور فلسفي، هذا الغياب قد يرمز إلى فقدان الصوت، أو العجز عن التعبير، أو قمع الكلمة قبل أن تولد. وقد يكون رمزًا لحالة ثقافية يعيشها الكثير من المثقفين في عالمنا العربي: الجذور الفكرية عميقة، لكن آلية التأثير معطلة بفعل التهميش مثلا.

ثالثًا: قراءة إعلامية — الأقلام الممنوعة من الكتابة:

       إذا أخذنا هذه الاستعارة إلى الميدان الإعلامي، فسنجد صورة مأساوية لمشهد الصحافة والفكر في كثير من الدول: صحفيون وكتّاب وأصحاب رسالة لهم تاريخ طويل (جذور)، لكنهم يُحرمون من النشر أو يُقصَون من المنابر (فقدان الرأس).

الإعلامي أو الكاتب الذي لا يُسمح له بطرح قضاياه هو كقلم ثابت في مكانه، لكن لا يملك سنًا يخطّ به كلماته. الجذور هنا قد تكون الخبرة، القيم، والمصداقية، لكن الرأس الغائب هو حرية التعبير التي خُنقت، أو المساحة التي ضاقت.

رابعًا: القراءة الأدبية — القلم كرمز للكاتب:

        الأدب يعرف القلم كرمز وجودي. القلم ليس أداة فقط، بل هو امتداد لوعي الكاتب. حين تقول الاستعارة “نحن أقلام”، فهي تمنح الإنسان هوية الكاتب، الراوي، المُوثّق. لكن هذه الهوية مشروطة بوجود الرأس.

الأدب العربي مليء بالصور التي تُشبه الكاتب بالشجرة أو بالنهر أو بالقلم. لكن قلم بلا رأس هو كاتب بلا قدرة على تحويل إحساسه إلى لغة. قد يكون هذا بسبب أزمة إبداعية، أو صراع داخلي، أو فقدان الإيمان بجدوى الكتابة.

خامسًا: البعد الفلسفي — كائنات ناقصة:

           الفيلسوف الفرنسي ميرلو-بونتي تحدث عن “الجسد الناقص” كاستعارة عن الوجود المبتور أو المقيّد. القلم ذو الجذور بلا رأس يمكن قراءته ككائن ناقص، أو كهوية مشروخة. نحن نعرف من نحن (الجذور)، لكننا لا نستطيع أن نصبح ما يجب أن نكونه (الرأس).

هذا الانفصال بين الجذر والرأس قد يمثل الفجوة بين الماضي والمستقبل، بين الذاكرة والفعل، بين الاستعداد والإنجاز. إنه مأزق إنساني وفكري يعيشه الفرد والمجتمع معًا.

سادسًا: رمزية الجذور والرأس في الحضارة:

           في الحضارات القديمة، كانت الكتابة رمز السيادة على الزمن. امتلاك أداة الكتابة يعني القدرة على حفظ الأفكار للأبد.

     أما الجذور فكانت ترمز إلى الانتماء والخلود. الجمع بين الجذر والرأس في القلم هو اكتمال الهوية الحضارية: 

الانتماء + التعبير = الوجود الفاعل.

    غياب الرأس في استعارة معالي د. عبير المعداوي يمكن أن يُقرأ كإشارة إلى حضارة فقدت أدواتها التعبيرية، أو أمة قُطعت صلتها بوسائل صياغة خطابها في العالم المعاصر.

سابعًا: القلم الجذري في زمن العولمة:

         في زمن العولمة، لم تعد الجذور وحدها كافية لحماية الهويات. بل إن القلم (بكل أجزائه) صار مهددًا. 

     الإعلام الرقمي أتاح للجميع الكتابة، لكنه في الوقت نفسه غرق في ضجيج يمنع الصوت الأصيل من البروز. 

     القلم ذو الجذور بلا رأس في هذا السياق قد يمثل المفكر أو المبدع الذي يملك هوية متينة، لكنه يجد صعوبة في اختراق هذا الضجيج العالمي ليصل صوته.

ثامنًا: من الجذور إلى الرأس — رحلة الاكتمال

       التحول من حالة الجذور بلا رأس إلى قلم كامل يتطلب ثلاث خطوات:

١- التحرر من القيود — سواء كانت خارجية أو داخلية

٢- إيجاد المنصة — منبر حقيقي أو افتراضي يمكّن الصوت من الوصول.

٣- التدريب على الفعل — أي إعادة بناء مهارات التعبير، لأن الرأس ليس مجرد قطعة معدنية، بل هو حصيلة ممارسة واعية.

تاسعًا: بعد شخصي — الإنسان كقلم

         إذا أسقطنا الاستعارة على المستوى الشخصي، فقد نجد في حياتنا لحظات نشعر فيها أننا جذور قوية في الحب أو الصداقة أو المبادئ، لكننا عاجزون عن قول ما نشعر به.

قد يكون ذلك بسبب الخوف من الرفض، أو لأن الكلمات لم تتشكل بعد، أو لأن السياق لا يسمح. هنا يصبح غياب الرأس استعارة عن الصمت الإجباري، مثلا عن الحب المكبوت، أو عن الفكرة التي تختنق قبل أن تُولد.

عاشرًا: المفارقة المؤلمة:

         أجمل ما في القلم رأسه، وأجمل ما في الجذر ثمرته. أن تملك الجذور بلا رأس يشبه أن تملك الذاكرة بلا مستقبل، أو الحلم بلا خطة، أو الحب بلا اعتراف. 

     إنها حالة النصف المفقود التي تترك الإنسان دائمًا في مساحة الانتظار.

التحليل الرمزي عبر التاريخ لثنائية الجذر والرأس:

        عبر التاريخ الإنساني، ظلّ الجذر والرأس رمزين متقابلين يجتمعان في تشكيل الكائن الكامل، سواء كان نباتًا، أو أداة، أو كائنًا أسطوريًا، أو حتى حضارة بأكملها. هذه الثنائية — حين نُسقطها على القلم — تكتسب دلالة خاصة، لأنها تجمع بين عنصر الثبات (الجذر) وعنصر الفعل (الرأس).

ألخص هذا في التالي:

١- الجذر: الذاكرة، الانتماء، والخلود

             في الحضارات الزراعية الأولى، مثل مصر القديمة وبلاد الرافدين، كان الجذر رمزًا للحياة المستمرة. الجذور هي التي تحفظ النبات حيًا في مواجهة الجفاف والعواصف. من هنا، صار الجذر استعارة عن الانتماء للأرض وللتاريخ.

     في الفلسفة الشرقية، الجذر يرمز إلى الحكمة المتوارثة. في الفكر الصيني، الجذور القوية تُشير إلى العائلة والتقاليد، وهي ما يمنح الشجرة (أي الفرد) توازنها أمام رياح التغيير.

    وفي الصوفية، الجذر يعني الاتصال بالمصدر — أصل الوجود، الله، أو الحقيقة المطلقة.

٢- الرأس: الرؤية، الفعل، والاتجاه

             الرأس في الرمزية القديمة كان مركز القيادة والتوجيه. في الأساطير اليونانية، رأس الإلهة أثينا هو منبع الحكمة والاستراتيجية. وفي الثقافة الإسلامية، الرأس ارتبط بالعقل كأداة إدراك وإبداع.

عندما نتحدث عن رأس القلم، فإننا نتحدث عن الجزء الذي يحوّل الطاقة الكامنة (الحبر في الداخل) إلى أثر في الخارج (الكلمة المكتوبة). هذا الرأس هو الحد الفاصل بين الإمكان والفعل.

٣- ثنائية الجذر والرأس في الحضارة:

             عبر العصور، أدركت الحضارات أن بقاءها يعتمد على توازن بين الجذر والرأس:

الجذر = الهوية، التراث، المبادئ.

الرأس = القدرة على الإبداع، التأثير، والتجديد.

حضارة لها جذور بلا رأس، هي حضارة تعيش على الماضي ولا تصنع الحاضر. وحضارة لها رأس بلا جذور، هي كائن سريع الانهيار لأن ابتكاراته لا تستند إلى عمق أو استمرارية.

٤- في الأدوات والرموز:

                               القلم، السيف، الرمح

     كلها أدوات تجمع بين الجذر (المقبض، الامتداد) والرأس (الجزء الفاعل). عندما ينكسر الرأس، تصبح الأداة عاجزة، مهما كان أصلها ثابتًا. وفي العكس، الرأس بلا جذر يفقد التوازن والاستقرار.

     حتى في فن العمارة، نجد الأعمدة ذات القاعدة (الجذر) والتاج (الرأس). القاعدة تمنح الثبات، والتاج يمنح الجمال ويكمل الوظيفة الجمالية والرمزية.

٥- إسقاطات معاصرة:

                              في سياقنا المعاصر، الجذر قد يكون المعرفة المتراكمة عبر التاريخ، والرأس هو التكنولوجيا أو أدوات التعبير الحديثة. بدون الرأس، تبقى المعرفة حبيسة الكتب والمخطوطات، لا تصل إلى الناس. وبدون الجذر، قد تبدو التقنيات الحديثة لامعة لكنها فارغة من المعنى.

٦- المعنى العميق لاستعارة :

                                       “قلم بلا رأس”

        عندما نضع القلم في قلب هذه الثنائية، نكتشف أن الجذور تمثل المخزون الفكري والأخلاقي للمثقف، بينما الرأس يمثل صوته في العالم. الجذور تمنحه البقاء، والرأس يمنحه الحضور.

      غياب الرأس إذًا، عبر التاريخ الرمزي، هو غياب القدرة على تحويل الذاكرة إلى فعل، وهو في الوقت ذاته إشارة إلى خلل في اكتمال الهوية الإنسانية.

            “نحن أقلام لها جذور لكن ليس لها رأس” 

ليست جملة عابرة، بل هي مرآة لزمننا، ولأزمتنا الفكرية والإنسانية.

      إنها تصف المثقف الذي ورث التراث، لكنه حُرم من المنبر. تصف الإنسان الذي يملك الانتماء، لكنه عاجز عن التعبير. تصف الحضارة التي تملك التاريخ، لكنها فقدت أدوات صناعة الحاضر.

      ربما يكون الحل في أن نعيد لأنفسنا رؤوس أقلامنا.

      أن نكسر الحواجز، أن نصنع منصاتنا، أن نكتب ولو على هوامش العالم، لأن القلم بلا رأس قد يظل جذره في الأرض، لكن صوته لن يصل أبدًا.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

نبذة عنا

صحيفة سي جاي العربية هي واحدة من اهم اصدارات شركة Castle Journal البريطانية الدولية لانتاج الصحف والمجلات و مقرها لندن – المملكة المتحدة البريطانيه.

CJ  العربية © Published by Castle Journal LTD.