بين القصة والنقد: عندما يكتب الكاتب تأملًا في نصه
بقلم المستشار/ أحمد المندراوي
مقدمة للمقدمة:
ليس من المألوف أن يكتب الكاتب نصّه السردي ثم يعود إليه ناقدًا، متفحّصًا إياه بالعين الثانية التي تراقب ما خلقته اليد الأولى.
ففي تقاليد الأدب، هناك فصل غالب بين من يروي ومن يشرح، بين المبدع والناقد.
ومع ذلك، شهدنا في تاريخ الأدب لحظات نادرة يتقدّم فيها الكاتب ليقول: “هذا ما أردت، وهذا ما لم أدرِ أنني فعلته.”
كتب إدغار آلان بو قصيدته الشهيرة “الغراب”، ثم ألحقها بمقالته “فلسفة التكوين”، كاشفًا كيف صنع نصّه خطوة بخطوة.
وقدم بورخيس في أعماله تلك الحالة الفريدة التي يمتزج فيها السرد بالفكر، حيث لا تعرف إن كنت تقرأ قصة أم مقالة تأملية.
أما في أدبنا العربي، فقد مهّد طه حسين وتوفيق الحكيم لهذا التداخل، حين ألحقا بعض رواياتهما أو مسرحياتهما بتمهيدات نقدية تكشف عن البنية الذهنية خلف السرد.
في هذا السياق، تأتي “نقطة الذوبان” لا كمجرد قصة قصيرة، بل كنص ثلاثي الأبعاد: إبداع سردي، وتفكير نقدي، وتأمل وجودي في هشاشة الحب في زمنٍ باتت فيه الروابط الإنسانية أقرب إلى السوائل: شفافة، متغيرة، وسهلة التبخّر.
مقدمة نقدية:
“نقطة الذوبان” ليست حكاية حب مأساوي أو انفصال صاخب، بل هي تمثيل فني دقيق للحظة التحلل العاطفي البطيء، حين تذوب العلاقة دون صراخ، وتتلاشى دون ندم، كما يذوب الجليد في راحة اليد.
يختار النص أن يبدأ من المنتصف الباهت للعلاقة، لا من فتنتها الأولى ولا من انهيارها الأخير.
فالسرد يمضي في توثيق مرحلة “الذوبان”، وهي لحظة تحول كيميائي وعاطفي في آن: حين يتوقف الحب عن المقاومة، وينسحب في صمت.
الشخصيات بلا أسماء، بلا ملامح، بلا مكان. هذا التجريد المتعمد يحرّر القصة من سجن التجربة الخاصة، لتصبح انعكاسًا لحالة إنسانية عالمية ومألوفة في آنٍ واحد: هشاشة الحب في زمن الفردانية، والاستهلاك، والخوف من الالتزام.
يتلاعب النص بفكرة “الكوب الزجاجي”، كمجاز مركزي للعلاقة: رقيق، ثمين، لكنه في النهاية… قابل للكسر. لا كسر مدوٍ، بل تشظٍّ هادئ لا يستدعي حتى جمع القطع.
إن الصمت الذي يسود النص ليس غيابًا للغة، بل هو لغة بحد ذاته.
إنه التعبير الأبلغ عن ما لا يُقال، وما لا يُعاش بعد، وما لا يُعاد.
وهنا يلتقي السرد مع أطروحات زيجمونت باومان في “الحب السائل”، حيث العلاقات قابلة للتبديل، والهويات هشّة، والروابط تنتهي كما تبدأ: بلا يقين.
“الروابط العاطفية في زمن الحداثة السائلة تشبه الملفات المؤقتة في الذاكرة الرقمية: قابلة للمحو السريع، ولا تُخزَّن إلا إذا طُلب ذلك صراحة”
– زيجمونت باومان، الحب السائل
هكذا لا يصبح النص فقط مرآة لأزمة عاطفية، بل وثيقة سردية عن تحوّل الحب نفسه من شعور غامر إلى تجربة مهددة دومًا بالذوبان.
القصة: “نقطة الذوبان”
لم يكن بينهما خلافٌ حقيقي.
مجرد صمتٍ دام طويلاً، كأن الكلمات لم تعد تجد ممرًّا آمنًا بين شفاههما. كانت الرسائل تقلّ، ثم تختفي، دون إعلان، دون قرار. صباحٌ تلو آخر، يمرّ دون “صباح الخير”، ومساءٌ يعقبه مساء، دون أي سؤال عمّا فعله كل منهما في يومه.
كانا قد التقيا صدفة، كما يلتقي عابر طريق بظل شجرة على جانب الطريق. جلسا قليلاً، تقاسما بعض الخبز والكلام، ثم عندما مرّت عاصفة صغيرة، قرّرا أن الشجرة لم تعد تكفي. نهضا، كلّ منهما باتجاه مختلف، دون وداع.
هي لم تكن تريده أن يرحل، لكنه أيضًا لم يطلب البقاء.
وهو لم يكن يريد الابتعاد، لكنه لم يجد سببًا قويًا للبقاء.
في البداية، كانت العلاقة تشبه كوبًا من الزجاج الرقيق. كانا يتعاملان معه بحذر، يمسكانه بكلتا اليدين، ينظران إلى نقائه بامتنان.
وبمرور الوقت، بدأت اليدان تشتغل بأشياء أخرى، بالكاد تلمسان الكوب. وفي أحد الأيام، سقط دون صوت كبير، وتشظى. لم يحاول أيٌّ منهما لملمة القطع.
ربما لأنهما يعرفان: ما يُكسر، لا يعود كما كان.
لم يَكرها بعضهما.
لم يسيئا إلى بعضهما.
كل ما في الأمر أن العالم تغيّر بسرعة، ولم يكن لديهما الوقت أو الرغبة الكافية لتغييره معًا.
الرسائل باتت تكتب ثم تُمحى.
الاتصال أصبح يشبه إعلانًا مكررًا: تعرف النهاية مسبقًا، فلماذا تضغط “اتصال”؟
والذكريات، تلك الجميلة، لم تعد تُستحضر بشوق، بل تُطوى بتثاقل، كملابس الصيف في بداية الشتاء.
التقيا لاحقًا، صدفة أخرى، لكنها كانت مختلفة.
كانا يشبهان شخصين التقيا من قبل، لكن لا يتذكران في أي سياق.
ابتسم كلٌّ منهما بأدب، كما لو أن الحبّ لم يكن.
صافحها بخفة، كأنه يعتذر عن غيابه الذي لم يشرح، وابتسمت له كأنها سامحته منذ قرون.
تبادلا كلماتٍ لا تسمن، ولا تُشعل شيئًا.
ومضى كلٌّ منهما إلى وجهة لا تشبه الأخرى.
لم تكن تلك نهاية مأساوية.
بل نهاية عادية جدًا، كآلاف النهايات التي لا تُكتب في الروايات، ولا تُروى في المقاهي.
نهاية بلا خيانة، بلا صراخ، بلا أبواب تُصفَق.
نهاية تشبه الحب السائل… يتسرّب من بين الأصابع دون أن يلاحظ أحد.
نهاية تشبهنا تمامًا، في هذا الزمن الخفيف… والزلق.