Some Populer Post

  • Home  
  • النقد الادبي: من المحاكمة إلى التأويل
- النقد - الأدب

النقد الادبي: من المحاكمة إلى التأويل

بقلم المستشار الناقد /احمد المندراوي تتناول هذه الدراسة التحوّل المفاهيمي والوظيفي في النقد الأدبي، من كونه سلطة معيارية تُحاكم النصوص وفق مقاييس ثابتة، إلى كونه فعلًا تأويليًا يتفاعل مع النص من الداخل، ويعيد إنتاجه معرفيًا وجماليًا. وتعتمد الدراسة منهجًا تحليليًا تأصيليًا، يُبرز هذا التحول ضمن سياقاته الفلسفية والثقافية، ويبين أثره على التلقي والتعليم، مع الإشارة […]

IMG 9364

بقلم المستشار الناقد /احمد المندراوي

تتناول هذه الدراسة التحوّل المفاهيمي والوظيفي في النقد الأدبي، من كونه سلطة معيارية تُحاكم النصوص وفق مقاييس ثابتة، إلى كونه فعلًا تأويليًا يتفاعل مع النص من الداخل، ويعيد إنتاجه معرفيًا وجماليًا. وتعتمد الدراسة منهجًا تحليليًا تأصيليًا، يُبرز هذا التحول ضمن سياقاته الفلسفية والثقافية، ويبين أثره على التلقي والتعليم، مع الإشارة إلى التحديات المنهجية التي تواجه النقد المعاصر في ظل الانفتاح التأويلي.

 يُعدّ النقد الأدبي مرآة لتحولات الفكر والذوق والوعي الجمالي في كل عصر. فمنذ بداياته الأولى، مارس النقد وظيفة معيارية تقوِّم النصوص وتحاكمها استنادًا إلى مقاييس الجمال، والبلاغة، واللياقة اللغوية. غير أن هذه الوظيفة شهدت تحولات عميقة، خاصة في القرن العشرين، بعد أن تزعزعت المرجعيات الثابتة، وتقدّمت مقاربات جديدة للنصوص، جعلت من التأويل لا الحكم نقطة الارتكاز الأساسية في العمل النقدي.

تسعى هذه الدراسة إلى رصد هذا التحول من “النقد بوصفه محاكمة” إلى “النقد بوصفه تأويلًا”، من خلال تتبع الجذور النظرية، وتبيان انعكاساته على علاقة الناقد بالنص، وأثره في البيئة التعليمية والتذوقية، مع تسليط الضوء على ما يطرحه التأويل من إمكانات وتحديات.

أولًا: النقد بوصفه سلطة معيارية:

في العصور الكلاسيكية، ارتبط النقد الأدبي بمفاهيم المحاكاة والمقارنة والنموذج الأعلى. فقد رأى أرسطو، على سبيل المثال، أن الفن محاكاة للطبيعة، وأن جماله في اتساقه مع الواقع ونظامه. وسار على هذا النهج النقاد في التراث العربي (الآمدي، وابن طباطبا، وقدامة بن جعفر…) الذين قاربوا الشعر من زاوية بلاغية تقويمية، تصنّف النصوص وفق مدى قربها من النموذج الأمثل.

ولم يكن الناقد في هذه المرحلة يتعامل مع النص بوصفه بنية حية أو تجربة إنسانية مركبة، بل بوصفه منتجًا خاضعًا للفحص والاختبار، يستحق الثناء أو النقد السلبي بحسب مدى التزامه بالمعايير المحددة سلفًا. وهكذا، ارتبط النقد بـ"السلطة الجمالية"، وهي سلطة خارجية تُفرَض على النص.

ثانيًا: بدايات التحول في وظيفة النقد:

مع صعود الحداثة وتفكك المركزيات الكبرى، بدأ النقد الأدبي يتجاوز طبيعته المعيارية، ويقترب من النصوص بوصفها كيانات مستقلة، لا نسخًا باهتة عن نماذج سابقة. وقد أسهمت البنيوية في ترسيخ هذا التحول، إذ نظرت إلى النص كمنظومة لغوية ذاتية لا تحيل بالضرورة إلى مرجع خارجي، بل إلى بنيتها الداخلية.

كما ساهم النقد النفسي، ومن بعده النقد الثقافي، في تقويض سلطة "المعيار الواحد"، حين سلطا الضوء على لاوعي النص، وخطاباته الخفية، وسياقاته الاجتماعية والرمزية.

ثالثًا: التأويل باعتباره أفقًا معرفيًا جديدًا:

في ظل هذه التحولات، صعد التأويل بوصفه فعلًا قرائيًا مركزيًا. لم يعد النص يُقرأ لكشف “ما يعنيه”، بل لطرح أسئلة حول “كيف ينتج معناه”، ومن “أي موقع” يتكلم. ولم يعد الناقد يسعى إلى إحكام الإغلاق على المعنى، بل إلى إبقائه مفتوحًا، قابلًا للحوار، والتعدد، والمساءلة.

وقد عبّر بول ريكور عن هذا التحول بالقول:
“التأويل لا يهدف إلى اختزال النص، بل إلى كشف إمكاناته الدلالية، وتوسيع أفق فهمه.”

وفي هذا السياق، أصبح الناقد التأويلي:
يستنطق الصمت داخل النص.
يتابع انزياحات اللغة وتوتراتها.
يشتبك مع الطبقات النفسية والرمزية والخطابية للنص.
يعترف بتعدد القراءات، دون السقوط في الفوضوية التفسيرية.

رابعًا: أثر هذا التحول على التعليم والتلقي:

انعكس هذا التحول النقدي بوضوح في الحقل التربوي، حيث:
تغيّر نموذج تدريس الأدب من تلقين “المعنى الصحيح” إلى تدريب على “التأويل الممكن”.

صار الطالب مشاركًا في إنتاج المعنى، لا متلقيًا لمعرفة جاهزة.

توسّعت النصوص المقروءة لتشمل المهمَّش واليومي، والنصوص التي كانت خارج “الكانون الأدبي”.

تغيّرت أسئلة الامتحانات من: “ما غرض الشاعر؟” إلى “كيف تفهم هذا المقطع؟ وما تفسيرك للصورة؟”

خامسًا: حدود التأويل وإشكالياته:

رغم الأفق الخصب الذي يفتحه التأويل، إلا أن الانزلاق نحو التسيّب التفسيري يمثل خطرًا على المعنى والنقد معًا. فلا يمكن اعتبار كل تأويل متكافئًا، أو كل قراءة صحيحة بالمطلق.
من هنا، تبرز الحاجة إلى:
مرجعيات تحليلية واضحة (لغوية، معرفية، تاريخية).
تأويل يتقيد بشروط النص، لا بإرادة القارئ فقط.
وعي نقدي قادر على التمييز بين التأويل الخلاق والإسقاط العشوائي.

من القاضي إلى الشريك:
لقد تحرر النقد الأدبي من قيد المحاكمة المعيارية، وأصبح شريكًا للنص في إنتاج المعنى.
الناقد اليوم لا يكتب “ضد” النص، بل “معه”، ولا يُملي عليه حكمًا، بل يصغي إليه ليكشف صراعاته، وتوتراته، ورؤاه.

وفي ظل هذه التحولات، لم يعد السؤال: “هل هذا النص جيد؟” بل أصبح: “كيف يشتغل هذا النص؟ ماذا يُخفي؟ وكيف يمكن أن نعيد فهمه في ضوء تجربتنا القرائية؟”

إن النقد بوصفه تأويلًا، هو صورة أخرى من صور الحرية الفكرية، يتقدم بها الأدب نحو أفق إنساني أكثر رحابة، وأقل قسرًا.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

نبذة عنا

صحيفة سي جاي العربية هي واحدة من اهم اصدارات شركة Castle Journal البريطانية الدولية لانتاج الصحف والمجلات و مقرها لندن – المملكة المتحدة البريطانيه.

CJ  العربية © Published by Castle Journal LTD.