Some Populer Post

  • Home  
  • «من السهوب الروسية إلى ضفاف النيل: قراءة فنية وتاريخية في  بوليوشكا بولي
- مقالات الكتاب

«من السهوب الروسية إلى ضفاف النيل: قراءة فنية وتاريخية في  بوليوشكا بولي

دعوة  إلى ميلاد ملحمة موسيقية مصرية» بقلم المستشار/ أحمد المندراوي      منذ أن سمعت لحن «بوليوشكا بولي» للمرة الأولى منذ سنوات بعيدة بعيدة على يد والدي رحمه الله، أسرني بسحر لا يُقاوَم.      صار بالنسبة إليّ أكثر من مجرد مقطوعة موسيقية روسية، بل صار رفيقًا للروح في لحظات الانكسار والتعب. كلما اجتاحتني الأحزان أو تسلّل إليّ […]

IMG 1418

دعوة  إلى ميلاد ملحمة موسيقية مصرية»

بقلم المستشار/ أحمد المندراوي 

    منذ أن سمعت لحن «بوليوشكا بولي» للمرة الأولى منذ سنوات بعيدة بعيدة على يد والدي رحمه الله، أسرني بسحر لا يُقاوَم.

     صار بالنسبة إليّ أكثر من مجرد مقطوعة موسيقية روسية، بل صار رفيقًا للروح في لحظات الانكسار والتعب. كلما اجتاحتني الأحزان أو تسلّل إليّ الإحباط، ألجأ إلى هذا اللحن، أضعه في أذني فأجدني أكرره عشرات المرات بلا ملل. أحيانًا أبكي معه حتى تبلّل الدموع وجنتي، وأحيانًا أخرى أغلق عيني وأتركه يغسل داخلي كجدول ماء صافٍ يزيح عني غبار الأيام.

     الغريب أن هذه المقطوعة لا تتركني في الحزن، بل تأخذني في النهاية إلى حالة مختلفة تمامًا: 

هدوء عميق، صفاء داخلي، ومزاج أقرب إلى التصالح مع نفسي. وهذا ما حدث معي اليوم أيضًا، حين أعدت الاستماع إليها مرارًا حتى تغيّرت حالتي النفسية كليًا.

    وقد ساعد على هذا العشق أنّ «بوليوشكا بولي» ليست مجرد نسخة واحدة؛ هناك عشرات، بل مئات التسجيلات لها: من أداء الفرق الأوركسترالية الضخمة، إلى نسخ مصحوبة بجوقات (كورال)، وأخرى بعزف منفرد على الجيتار أو البيانو، بل حتى على العود العربي الذي منحها روحًا شرقية دافئة. لكنني –على كثرة هذه التسجيلات– أجد نفسي أكثر انشدادًا إلى تلك النسخة التي يغنيها الكورال بزيّ عسكري، حيث يتجلّى فيها الطابع الملحمي بكل قوته، ويبلغ تأثيرها في وجداني أقصى مداه.

     ففي عالم الموسيقى، لا تقتصر الألحان على كونها مجرد أنغام تُطرب الأذن، بل كثيراً ما تتحول إلى وثائق سياسية، وشهادات تاريخية، وصور فنية تجسّد ملامح الشعوب وثقافتها. ومن بين هذه الأعمال التي رسخت في الذاكرة الجماعية للشعوب، تبرز المقطوعة الروسية الشهيرة «بوليوشكا بولي» (Полюшко-поле)، أو كما عُرفت لاحقًا في الغرب باسم Meadowlands. هذه الأغنية التي ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين ليست مجرد لحن فولكلوري بسيط، بل هي نتاج لحظة سياسية فارقة في تاريخ الاتحاد السوفييتي، وتحمل أبعادًا عميقة تتقاطع فيها السياسة والفن والتاريخ.

أولاً: السياق التاريخي والسياسي:

      ظهرت “بوليوشكا بولي” سنة ١٩٣٣م، وهي فترة اتسمت بتحولات كبرى في الاتحاد السوفييتي تحت حكم جوزيف ستالين. كانت هذه المرحلة مرحلة بناء الدولة الاشتراكية المركزية، حيث جرى التركيز على الزراعة والصناعة العسكرية معًا.

كان الاتحاد السوفييتي يعيش حينها آثار “الخطة الخمسية الأولى”، التي أراد ستالين من خلالها تحويل الدولة إلى قوة صناعية وعسكرية كبرى.

تزامن ذلك مع تصاعد التوترات الدولية، وظهور مؤشرات الحرب العالمية الثانية، ما جعل الأغنية ذات بُعد تعبوي واضح.

الأغنية كتب كلماتها الشاعر فيكتور غوسييف (Victor Gusev)، ولحنها ليف كنّيبر (Lev Knipper)، وكلاهما ارتبطا بالمشروع الثقافي السوفييتي الذي هدف إلى تمجيد “الجيش الأحمر” وجعله رمزًا لوحدة الشعب.

في كلماتها الأصلية، يظهر الحقل (السهوب الروسية الواسعة) ليس مجرد مساحة جغرافية، بل رمزًا للأرض والوطن، بينما الجنود العابرون لهذه الحقول يمثلون حماية الشعب والأرض. هذه الصورة مثّلت دعامة أساسية في الفكر السوفييتي، حيث تُقدَّم الأرض كأم، والجنود كأبنائها المدافعين عنها.

ثانياً: التحليل السياسي:

        من الناحية السياسية، الأغنية ليست مجرد مديح للجيش الأحمر، بل هي أداة دعاية قوية:

١- تمجيد الجيش الأحمر:

                                  يظهر الجنود في الأغنية كأبطال أسطوريين يعبرون الحقول، في تصوير بطولي يعكس القوة والانضباط والولاء للوطن.

هذا الطابع البطولي جعل الأغنية تُستخدم في المهرجانات والاحتفالات الرسمية، بل وفي الأفلام السوفييتية التي تُمجّد الروح الوطنية.

٢-  التعبئة الشعبية:

                         في ظل سياسات ستالين التعبوية، كانت الأغنية وسيلة لخلق رابط عاطفي بين المواطن البسيط (الفلاح أو العامل) وبين الجيش.

الرسالة الضمنية: الأرض التي تزرعها وتحيا بها، يحميها الجنود، وبالتالي فإنك وجيشك كيان واحد.

٣- البعد الأيديولوجي:

                              الأغنية تُسقِط فكرة الانقسام بين “الفلاح” و”المحارب”، إذ أن الحقل (الزراعة) والجيش (الحرب) وجهان لعملة واحدة في بناء الدولة الاشتراكية.

هنا نلمس إحدى ركائز الفكر الماركسي-اللينيني في تلك الفترة: وحدة العمل العسكري والزراعي في خدمة الاشتراكية.

ثالثاً: التحليل الفني:

١- اللحن والمقام:

                      يعتمد اللحن على مقام صغير (Minor) يمنحه طابعًا شجيًا، لكنه في نفس الوقت لا يغرق في الحزن، بل يحمل نبرة قوة وإصرار.

يبدأ ببطء ثم يتصاعد تدريجيًا، ما يشبه خطوات الجنود المنتظمة على الأرض.

٢-  الإيقاع:

               الإيقاع مارش عسكري بطيء (March tempo)، لكنه ليس صارمًا كما في المارشات العسكرية الغربية، بل يمزج بين الصرامة والليونة، ما يعكس الروح السلافية التي تجمع بين الحزن العاطفي والقوة البطولية.

٣- الأداء الصوتي:

                        غالبًا ما تؤدى الأغنية بجوقة (كورال) رجالية، ما يضفي عليها بعدًا جماعيًا، وكأن كل الشعب يتحدث بصوت واحد.

     هذا الاختيار ليس عشوائيًا، بل مقصود لترسيخ مبدأ “الجماعة فوق الفرد”، وهو من مبادئ النظام السوفييتي.

٤- الجماليات الفنية:

                           الصورة الشعرية بسيطة لكنها مؤثرة: “الحقل الواسع” رمز للوطن، “الجنود” رمز للحماية، و”المعركة” رمز للتضحية.

هذا التبسيط يعكس سياسة “الفن للجماهير”، حيث يجب أن يكون الفن مفهوماً لعامة الشعب لا للنخب وحدها.

رابعاً: البعد التاريخي

١-  الانتشار في الداخل السوفييتي:

                                                 تحولت الأغنية إلى ما يشبه النشيد الشعبي، وغُنيت في الاحتفالات الرسمية، وفي الأفلام الحربية السوفييتية.

كما أصبحت تُدرّس للأطفال في المدارس، كجزء من التربية الوطنية.

٢- الانتشار في الخارج:

                                مع بداية الحرب الباردة، ذاعت شهرة “بوليوشكا بولي” في العالم، وأصبحت رمزًا للثقافة الروسية.

غناها العديد من الفنانين الغربيين بترجمات مختلفة، أشهرهم مغنّو موسيقى الجاز والأوبرا.

٣- رمزية الحرب العالمية الثانية:

                                           خلال الحرب العالمية الثانية (١٩٤١-١٩٤٥م)، أصبحت الأغنية مرادفًا لصمود الشعب السوفييتي في مواجهة الغزو النازي.

كانت تُذاع في الإذاعات العسكرية وفي الجبهات، لتعزيز الروح المعنوية للمقاتلين.

خامساً: التحليل الفلسفي-الاجتماعي:

          الأغنية تُبرز علاقة معقدة بين الأرض والإنسان:

الأرض ليست فقط مصدرًا للغذاء، بل هي كيان حي يحتاج إلى الحماية.

الجنود الذين يعبرون الأرض ليسوا غرباء عنها، بل هم أبناؤها.

     هنا يظهر مفهوم “الأم-الوطن”، وهو مفهوم متجذر في الثقافة الروسية، حيث تُعامل الأرض كوطن/أم، والدفاع عنها بمثابة دفاع عن الأم ذاتها.

هذه الثنائية (الأرض/الأم – الجندي/الابن) تمنح الأغنية عمقًا إنسانيًا يتجاوز حدود السياسة المباشرة، وهو ما جعلها تعيش وتتجاوز حدود زمنها.

سادساً: المقارنة مع النسخة الفيروزية:

           عندما أخذ الأخوان رحباني اللحن نفسه، وحوّلاه إلى أغنية عربية بعنوان “كانوا يا حبيبي”، تغير المعنى جذريًا:

في النسخة الروسية: الأرض رمز للوطن والجماعة، والجنود رمز للحماية.

في النسخة الرحبانية: الأرض تتحول إلى صورة رعوية شاعرية، والقمح رمز للحب والخصب.

بهذا، انتقل اللحن من الدعاية السياسية إلى الرمزية الشعرية، ومن الجماعة إلى الفرد والحنين.

هذا التحوير يكشف قوة اللحن ومرونته، وقدرته على حمل معانٍ مختلفة بحسب السياق الثقافي.

سابعاً: أثر الأغنية واستمراريتها:

         حتى اليوم، لا تزال “بوليوشكا بولي” تُغنى وتُعزف في روسيا وخارجها.

في روسيا، تُعتبر جزءًا من التراث الوطني، وتُستعاد في الاحتفالات الرسمية.

في الغرب، تُغنى كأغنية فولكلورية روسية تحمل طابع الحنين الشرقي.

في العالم العربي، بفضل فيروز والرحابنة، عُرفت كأغنية رومانسية رعوية.

هذا التنوع في التلقي يجعل الأغنية حالة فنية نادرة، حيث استطاعت أن تنتقل من سياق سياسي ضيق إلى فضاء عالمي رحب.

      أغنية «بوليوشكا بولي» ليست مجرد عمل موسيقي عابر، بل هي وثيقة تاريخية وسياسية وفنية.

من الناحية السياسية، جسدت روح التعبئة السوفييتية وتمجيد الجيش الأحمر.

من الناحية الفنية، قدمت مثالاً على المزج بين اللحن الشجي والإيقاع العسكري.

من الناحية التاريخية، أصبحت رمزًا لصمود الشعب الروسي في الحرب العالمية الثانية.

ومن الناحية الفلسفية، جسدت العلاقة العميقة بين الأرض والإنسان.

      ولعل أجمل ما يميزها هو قدرتها على التحول والتكيّف: من نشيد عسكري في روسيا، إلى ترنيمة رعوية بصوت فيروز، إلى لحن عالمي تتداوله شعوب مختلفة. إنها باختصار أغنية تتجاوز الزمن والحدود، وتبقى شاهداً على لحظة من تاريخ البشرية حيث اجتمع الفن والسياسة والتاريخ في لحن واحد.

    وإذا كانت «بوليوشكا بولي» قد استطاعت أن تعبر حدود روسيا وتتحول من نشيد تعبوي إلى أيقونة موسيقية عالمية، فذلك لأنها خرجت من رحم معاناة شعب، وصيغت بجدية وصدق فني، فصارت لحنًا خالدًا يتناقله الناس جيلاً بعد جيل. وهنا يحق لنا أن نتساءل: ألسنا في مصر، بتاريخنا العريق وتراثنا الموسيقي الضخم، أولى بأن يكون لنا لحن مماثل يحمل ملامحنا الوطنية ويعكس روحنا الجمعية؟

      إن مصر التي أنجبت سيد درويش، ومحمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي، ورياض السنباطي، قادرة اليوم –لو صدقت النوايا– أن تقدم عملاً موسيقيًا ملحميًا يضاهي «بوليوشكا بولي» بل ويتفوق عليه.

     لدينا قامات موسيقية معاصرة في حجم وإبداع عمر خيرت، بل وغيرُه من الملحنين الكبار القادرين على صوغ ألحان لا تخاطب فقط آذان المستمعين، بل وجدان الأمة كلها. لحنٌ يعبّر عن الأرض والنيل، عن الفلاح المصري والكادح البسيط، عن أجيال قدّمت الغالي والنفيس لتبقى مصر واقفة شامخة.

      نحن بحاجة ماسّة اليوم إلى موسيقى وطنية جامعة تعيد الذائقة الفنية إلى مسارها الصحيح، وتواجه طوفان الانحطاط الفني الذي يجتاح الساحة تحت مسميات “أغاني المهرجانات” أو “مهاترات التيك توك”. تلك الألوان التي ربما تسلّي لحظات، لكنها لا تبني وجدانًا ولا تؤسس ذاكرة جمعية راسخة. 

     بينما اللحن الوطني الملهم، إذا صيغ بعناية وبروح صادقة، يمكن أن يصير رمزًا خالدًا يُردَّد في المناسبات، ويعبر عن الشعب كله كما فعلت الأغنية الروسية.

     إنها دعوة صادقة لموسيقيينا الكبار: لا نريد فقط أعمالًا فردية جميلة، بل نريد ملحمة موسيقية مصرية الهوى والملامح، تأخذ من إيقاعاتنا الشعبية وألواننا التراثية، وتعيد صياغتها بلغة أوركسترالية حديثة، لتصبح صوت مصر الذي يليق بتاريخها وحضارتها. لحن نغنيه في مدارسنا، في ساحاتنا، في احتفالاتنا الوطنية، ويصل صداه إلى العالم ليقول:

         هذه هي مصر، العريقة، المبدعة، القادرة على أن تنتج فنًا خالدًا لا يقل شأنًا عن أي إبداع عالمي.

       خاصة وان مصرنا اليوم تمر بمرحلة دقيقة على الصعيد الدولي والإقليمي. 

       هناك من يتربّص بها، وهناك محاولات مستمرة لإضعافها عبر أدوات ناعمة وخشنة: من ضغوط سياسية واقتصادية إلى مؤامرات إعلامية وثقافية. 

      وفي ظل هذا المشهد العالمي المضطرب، نحن أحوج ما نكون إلى صوت فني وطني راسخ، يعيد توحيد وجدان المصريين، ويثبت أن الفن ليس ترفًا، بل هو أحد أسلحة المقاومة والصمود في وجه محاولات التفكيك والتشتيت.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

نبذة عنا

صحيفة سي جاي العربية هي واحدة من اهم اصدارات شركة Castle Journal البريطانية الدولية لانتاج الصحف والمجلات و مقرها لندن – المملكة المتحدة البريطانيه.

CJ  العربية © Published by Castle Journal LTD.