افتتاح المتحف المصري الكبير إنجاز عظيم في سجل الحضارة، هدية مصر للحضارة الإنسانية، حدثٌ تاريخي فريد.
الصرح العملاق الذي يُعد من أرقى وأكبر المتاحف على مستوى العالم، يضم مجموعة ضخمة من المقتنيات الأثرية التي لا تُقدّر بثمن، ليكون شاهدًا على عظمة الحضارة المصرية التي أبهرت العالم منذ آلاف السنين.
إن هذا المشروع لا يمثل مجرد متحف، بل هو مشروع حضاري وتنموي متكامل يعود بالمنفعة العامة على الدولة المصرية. يمنح هذا المتحف السائحين جولة فريدة من نوعها، فالتصميم اختير بعبقرية؛ إذ يمكن للزائر أن يشاهد المقتنيات النادرة، وفي الوقت نفسه يتجه عبر ممشى سياحي أنيق نحو الأهرامات، في تجربة ذكية تربط بين المتحف وأحد أعظم عجائب الدنيا السبع (الأهرامات).
هذا المتحف هو بحق هدية مصر للعالم، وبداية جديدة للتعرف على الحضارة المصرية العريقة.
زيارة المتحف ستكون نقطة انطلاق تشجع السائحين على زيارة باقي المتاحف والمعالم السياحية في بلادنا مصر.
السياحة هي وجه مصر المشرف أمام العالم، ولابد من نشر ثقافة حسن معاملة السائحين.
فهم لهم حقوق علينا، ويجب أن نحسن استقبالهم وألا نستغلهم، حتى يعودوا إلى بلادهم بانطباع طيب عن مصر، ويدفعهم ذلك للعودة مجددًا وزيارة بلادنا، ودعوة آخرين لزيارتها.
الشعب المصري كريم ومضياف، ذو مودة وكرم وأُلفة، وهي صفات أصيلة في الشخصية المصرية.
ملوك ورؤساء الدول سيحضرون افتتاح المتحف المصري الكبير، والحضارة المصرية العريقة منذ آلاف السنين متجسدة في آثارنا، وهي من الرموز التي تعبّر عن قوة مصر الحضارية وريادتها.
افتتاح المتحف رسالة للعالم أجمع بأن مصر آمنة، وخطوة لتحويل التراث المصري إلى تجسيد لرؤية “مصر الجديدة” في توظيف تاريخها العريق لخدمة حاضرها ومستقبلها، وإبراز الهوية المصرية كقوة حضارية مؤثرة على الساحة الدولية.
إنه تجسيد لحضارة تمتد لآلاف السنين، ورسالة أمن وسلام وتنمية، وتجسيد لعبقرية المصريين وإرادتهم الوطنية نحو المستقبل.
المتحف سيفتح أمامنا آفاقًا جديدة لتوفير فرص عمل لآلاف الشباب، وله مردود اقتصادي ضخم يعزز قوة الاقتصاد الوطني، وسيساهم في مضاعفة العائدات السياحية لمصر.
فالاستثمار السياحي ليس رفاهية، بل هو أحد محركات النمو الاقتصادي ومصدر أساسي للعملة الصعبة، مما يقوي الجنيه المصري ويخلق فرص عمل جديدة.
حقًا، نشعر بالفخر والاعتزاز بافتتاح المتحف المصري الكبير يوم السبت الموافق ١ نوفمبر ٢٠٢٥ في المنطقة القريبة من أهرامات الجيزة، حيث وُجهت الدعوة إلى قيادات دول العالم والمؤسسات الدولية لمشاركتنا فرحتنا بهذا الحدث التاريخي الذي يجسد التلاقي بين عظمة مصر ورؤيتها للمستقبل.
المتحف بما يحتويه من قطع أثرية يُعد كنزًا من كنوز مصر، وهدية تقدمها للعالم بأسلوب متحضر في عصر جديد يتميز بسرعة نقل الخبر عبر وسائل التواصل الحديثة.
وطالما نتحدث عن المتحف الذي يحتضن كنوز الحضارة، فمن الواجب أن نتحدث عن الحضارة المصرية القديمة وعلاقتها بالحاضر والمستقبل.
تسمية الدولة المصرية باسم “مصر”:
دعيت الدولة المصرية باسم “مصر” منذ بداية تاريخها، لأن عراقتها وأصالتها التاريخية والحضارية ظاهرة من ذات اسمها.
فاسم “مصر” يرجع إلى “مصرايم” الأب الأول لجميع المصريين، وهو أول من سكن بلادنا وتناسل فيها، ومصرايم هو الابن الثاني لحام، وحام هو الابن الثاني لنوح البار، كما يذكر الكتاب المقدس في سفر التكوين (تكوين ١٠: ١-٦).
ولمصر اسم آخر أطلقه عليها المصريون أنفسهم في العهد الفرعوني، ومنه اشتق الاسم الأوروبي “إيجيبت Egypt”، وهو مأخوذ من الكلمة الهيروغليفية (حا – كا – بتاح) وتعني “بيت روح بتاح”، وبتاح هو الإله الخالق.
ولا يزال المصريون حتى اليوم يرددون العامية الشعبية “يا فتاح يا عليم”.
عندما جاء اليونان إلى مصر، نقلوا اسمها إلى لغتهم فنطقوه “إيجيبتوس”، ومع تطور اللفظ تحوّل لاحقًا إلى “قبطي”، إذ سمع العرب المصريين يقولون “جبطي”، فتحولت الكلمة إلى “قبطي”، وهي بعينها كلمة “مصري”.
اعتنق بعض الأقباط الإسلام دينًا، وبقي آخرون على إيمانهم بالمسيح، ومن هنا فجميع أهل مصر، مسلمين ومسيحيين، هم أبناء وطن واحد، يشربون من نيل واحد، ويأكلون من خيرات واحدة، ويتنفسون هواءً واحدًا، وترجع أصولهم جميعًا إلى مصرايم بن نوح.
النيل الذي نشرب منه يرجع إلى جنة عدن، كما ورد في الكتاب المقدس أن أربعة أنهار كانت تخرج من الجنة، وهي دجلة والفرات وجيحون وفيشون (تكوين ٢: ٤-١٠)، ويُعد نهر جيحون هو نهر النيل، الذي وصفه الكتاب بأنه يحيط بأرض كوش (الحبشة ومصر).
ومن ثم، فالنيل هو نهر مبارك، مصدر حياة، وقدسه المصريون القدماء وسموه “حابي” لأنه مظهر من مظاهر عناية الله بمصر.
الحضارة المصرية القديمة:
إن الذين يقولون إن الحضارة المصرية ترجع إلى سبعة آلاف سنة يظلمونها، لأن الحضارة المصرية هي أقدم حضارة في التاريخ الإنساني. فاسم “مصر” نفسه يرجع إلى مصرايم بن حام بن نوح (تكوين ١٠: ٦).
دراسة المخطوطات المصرية القديمة (القبطية، اليونانية، العبرانية، اللاتينية…) تكشف لنا أن المصريين القدماء والاقباط دخلوا عالم الروح بعمق، وعرفوا من أسرار الوجود ما وراء المنظور والمحسوس.
أقاموا المسلات الشاهقة، وشيدوا الأهرامات والمعابد، وبرعوا في علم التحنيط الذي يدل على معرفتهم بعلم التشريح.
كما أن طقوسهم الدينية القديمة كانت وسائل إيضاح رمزية عميقة، وقد بقي الكثير منها في ممارسات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية اليوم.
التعليم والعلم عند المصريين القدماء:
أنشأ المصريون القدماء مؤسسات تعليمية تُسمى (بر عنخ) أي “بيت الحياة”، تشبه الجامعات، إلى جانب المدارس المهنية والمدارس الملكية.
وفي عصر البطالمة تطورت العلوم بإنشاء مكتبة الإسكندرية، التي صارت مركزًا عالميًا للعلوم والفنون.
اللغة المصرية القديمة استمرت في اللغة القبطية، وهي امتداد حي لها، والعالم المصري “توت” هو من وضع التقويم المصري القديم الذي اعتمدته الكنيسة كتقويم قبطي لاحقًا.
التراث والفن القبطي وتأثيره:
كما قال عميد الأدب العربي طه حسين: “الكنيسة القبطية هي مجد مصر القديم.”
فالكنيسة القبطية ورثت الحضارة المصرية القديمة في اللغة، والفن، والموسيقى، والرموز، وحافظت عليها كوديعة ثمينة.
التقويم القبطي هو امتداد مباشر للتقويم المصري القديم، والطقوس القبطية احتفظت بجذور عميقة من روح الحضارة القديمة.
الفن القبطي والفن الإسلامي:
ورث الأقباط عن أجدادهم النزعة الفنية، فألهمهم الإيمان المسيحي صورًا ورموزًا روحية خالدة مثل الصلبان وصور السيد المسيح والقديسين، وقد ظهرت في الكنائس والأديرة والمنازل.
كما تأثر الفن الإسلامي بالفن القبطي؛ فجامع ابن طولون مثلًا صممه المهندس القبطي سعيد بن كاتب الفرغاني، ولذلك نجد تشابهًا واضحًا بين عمارة الكنائس القديمة والمساجد التاريخية.
الخلاصة:
الكنيسة القبطية هي الامتداد الطبيعي لمجد مصر القديم، فهي المستودع الحي لتراثها الحضاري، والامتداد الروحي واللغوي والفني له.
إن الحضارة المصرية هي أقدم حضارة إنسانية لا تزال قائمة إلى اليوم في تراثنا المصري القبطي وفي ممارساتنا الدينية والشعبية، لأنها مرتبطة بالإنسان المصري الذي أودع الله فيه سره ليكون ناطقًا بعظمة الخالق:
> “هُوَ الرَّبُّ بَاسِطُ السَّمَاوَاتِ وَمُؤَسِّسُ الأَرْضِ وَجَابِلُ رُوحِ الإِنْسَانِ فِي دَاخِلِهِ” (زكريا ١٢: ١).
سيظل يوم الأول من نوفمبر عام ٢٠٢٥ يومًا خالدًا في تاريخ مصر بافتتاح المتحف المصري الكبير.
نصلي إلى الله أن يحفظ بلادنا العزيزة، قيادةً وشعبًا، من كل شر ومكروه.
تحيا مصر، تحيا مصر، تحيا مصر.
بقلم القس بولا فؤاد رياض
كاهن كنيسة الشهيد العظيم مارجرجس بالمطرية – القاهرة


