Some Populer Post

  • Home  
  • شايلوك بين القانون والمصير
- الثقافة

شايلوك بين القانون والمصير

بقلم  الكاتب  / أحمد المندراوي     كثيرا ما نقابل في الحياة أشخاصا مثل “شايلوك” يتفننون في التسويف واختلاق الحجج والأعذار الواهية، لا لشيء إلا ليتهرّبوا من أداء الحق لأصحابه الذين هم في أمسّ الحاجة إليه. كأن يتشبثون بالنصوص والشكليات، متعامين عن جوهر العدالة، مؤمنين أن المراوغة قد تنجيهم إلى الأبد. هناك، كما هنا، يتكرر ذات النمط: خصم […]

935035a4 a626 4466 aef1 c6b481ce082f

بقلم  الكاتب  / أحمد المندراوي

    كثيرا ما نقابل في الحياة أشخاصا مثل “شايلوك”

يتفننون في التسويف واختلاق الحجج والأعذار الواهية، لا لشيء إلا ليتهرّبوا من أداء الحق لأصحابه الذين هم في أمسّ الحاجة إليه. كأن يتشبثون بالنصوص والشكليات، متعامين عن جوهر العدالة، مؤمنين أن المراوغة قد تنجيهم إلى الأبد.

  •   من هنا نشهد المحاكمة الشهيرة في مسرحية وليم شكسبير تاجر البندقية، حيث وقف المرابي اليهودي “شايلوك” متعجرفاً متشدداً، متمسكاً بعقده الجائر الذي يقتضي أخذ “رطل من لحم” من جسد غريمه. 

هناك، كما هنا، يتكرر ذات النمط: خصم يظن أن التلاعب بالنصوص، والمغالاة في الحرفية، والتمسك بالشكليات، يمكن أن تغني عن جوهر العدالة وروح القانون. لقد شدّتني تلك المحاكمة القديمة لأنها تجسّد الصراع بين من يسعى للحق بعدالة وإنصاف، وبين من يعتصم بالمراوغة والتعنت، متوهماً أن الغلبة ستكون له في النهاية.

  •   شايلوك هو النموذج التاريخي للخصم الذي يتعالى على العدالة، ويغتر بقوته ومركزه، ثم ينقلب عليه مكره في لحظة فاصلة. 

وهكذا، فإن العودة إلى تحليل تلك المحاكمة لا تقتصر على كونها قراءة أدبية في مسرحية خالدة، بل هي أيضاً مرآة تنعكس فيها تجاربنا اليومية، وتجعلنا نوقن أن الحق، مهما طال طريقه، لا بد أن يظهر، وأن العدالة، مهما تأخرت، تملك من الحيلة والذكاء ما يطيح بالمراوغين والمتكبرين.

     تُعَدّ مسرحية “تاجر البندقية” لويليام شكسبير من أكثر الأعمال الدرامية إثارة للجدل في تاريخ الأدب الغربي، ليس فقط لعمقها الفني وتعدد طبقاتها الرمزية، بل أيضًا لأنها قدّمت شخصية من أعقد الشخصيات التي رسمها شكسبير على خشبة المسرح، وهي شخصية شايلوك اليهودي. هذه الشخصية التي تجلّت في المحاكمة الشهيرة، حيث بلغ الصراع ذروته، لتتحول الجلسة القضائية إلى مشهد مسرحي درامي متكامل جمع بين التراجيديا الإنسانية والجدل القانوني والفلسفي، وانتهى بانكسار شايلوك وخروجه ذليلًا خاسرًا كل شيء.

  •     إن دراسة شخصية شايلوك في المحاكمة لا يمكن أن تُختزل في صورة نمطية لليهودي المرابي الجشع كما قدمتها المسرحية، بل تحتاج إلى تحليل معمّق يكشف عن أبعادها الإنسانية والاجتماعية والقانونية. 

ومع ذلك، فإن شكسبير جعل من شايلوك نموذجًا متعجرفًا، مغرورًا، قاسيًا في تمسكه بحرفية القانون، لدرجة أعمته عن أي اعتبار أخلاقي أو رحمة إنسانية، فوقع في الفخ الذي نصبه لنفسه حين واجه براعة القاضي ـ أو بالأحرى بورشيا متنكرة في زي قاضٍ ـ التي قلبت المعادلة وأظهرت هشاشته.

     تُعدّ المحاكمة محورًا رئيسًا في المسرحية؛ فهي اللحظة التي تلاقت فيها كل الخيوط: الكرم في مواجهة البخل، الرحمة في مواجهة القسوة، الروح الإنسانية في مواجهة جمود النص القانوني، الصداقة في مواجهة الجشع، والعدل في مواجهة الاستغلال. ولذا، فإن تحليل هذه المحاكمة يكشف ليس فقط عن ملامح شخصية شايلوك، بل عن فلسفة شكسبير في العدالة، وعن نظرته العميقة للصراع بين المادة والروح.

     في هذا المقال المطوّل، سنركز على تصوير شكسبير لشايلوك أثناء المحاكمة، وكيف بدا في هيئة المتعجرف الذي لا يرى سوى انتقامه ولا يسمع سوى صوت غروره، وكيف برزت قسوته في إصراره على انتزاع “رطل اللحم” من جسد أنطونيو، ثم كيف انتهى الأمر به إلى خيبة ساحقة أفقدته ماله وكبرياءه، وألقت به في درك المهانة. وسنتوقف عند براعة القاضي في إدارة المحاكمة، ذلك الذكاء القانوني الذي أظهر كيف يمكن للكلمة أن تنقذ حياة، وللحيلة البلاغية أن تُسقط غرورًا استبدّ بالإنسان حتى أعماه.

     وبذلك، فإن المحاكمة ليست مجرد مشهد قضائي، بل هي مسرح تتصارع فيه القيم والمصالح، وتُختبر فيه الإنسانية على محك القانون. من هنا تأتي أهمية تحليلها بعمق، والوقوف على كيفية بناء شخصية شايلوك وتفكيكها، وعلى المهارة التي أدار بها القاضي – بورشيا – ذلك الموقف العصيب، لتتحول النهاية إلى عبرة إنسانية وقانونية في آن واحد.

ملامح شخصية شايلوك قبل المحاكمة

             لا يمكن فهم موقف شايلوك في قاعة المحكمة إلا من خلال التمهيد لشخصيته كما رسمها شكسبير قبل الوصول إلى المشهد الحاسم. فقد بنى الكاتب شخصية هذا المرابي اليهودي على نحو يجمع بين عناصر متناقضة: فهو في الظاهر رجل قانون وعقد وضمانات مالية، لكنه في العمق كائن مثقل بالكراهية، مسكون بالانتقام، أسير لهواجس المال والربح. ومن هنا تأتي أهمية النظر في ملامح شخصيته قبل لحظة المواجهة داخل المحكمة، لفهم كيف تدرج من حالة الثقة بالنفس والتعالي، إلى هاوية الانكسار والذل.

  • ١- المرابي الذي يختزل العالم في المال:

              منذ بداية المسرحية، يظهر شايلوك باعتباره مرابيًا لا يرى في العلاقات الإنسانية سوى معادلات مالية. فكل شيء عنده يقاس بالفائدة والربح، وكل علاقة لا تُبنى على المال تبدو في نظره عديمة القيمة. حتى حديثه مع الآخرين يكشف عن ذهنية حسابية صارمة لا مكان فيها للعاطفة. هذا الجانب جعله نقيضًا لأنطونيو التاجر الكريم الذي يُقرض بلا فائدة ويمدّ يد العون لأصدقائه.

  • ٢- مشاعر الحقد والكراهية لأنطونيو:

              يحمل شايلوك ضغينة عميقة تجاه أنطونيو، ليس فقط لأنه ينافسه في التجارة، بل لأنه يفضح أساليبه الربوية أمام الناس. هذه الكراهية الشخصية تحولت عند شايلوك إلى عقدة دفينة، وجعلته ينتظر الفرصة المواتية للانتقام. ولذا حين جاء أنطونيو ليقترض من ماله، وجد شايلوك اللحظة الذهبية ليضعه في فخ العقد المشؤوم.

  • ٣- العناد والاعتداد بالنفس:

            شايلوك شخصية عنيدة بطبعها، يتشبث بموقفه ولا يتراجع حتى لو خسر كل شيء. هذا العناد يرتبط بشعور متضخم بالذات، حيث يرى نفسه أذكى من الآخرين وأقدر على التحكم بمصيرهم من خلال سطوة المال والعقود. فهو لا يتحدث بلسان المقترض أو الشريك، بل بلسان السيد الذي يفرض شروطه، حتى لو كانت غريبة أو وحشية.

  • ٤- التبرير الأخلاقي للانتقام:

             اللافت أن شايلوك لا يرى نفسه جشعًا أو شريرًا، بل يبرر قسوته بكونه ضحية للازدراء والتمييز الديني والاجتماعي. فهو يكرر في أكثر من موضع أن المسيحيين يحتقرونه لأنه يهودي، وأنه لا يفعل سوى رد الصاع صاعين. بهذا الخطاب، يحاول أن يغطي على نزعاته الدنيئة بستار من “العدالة” الشخصية، وكأنه يقول: إن كنتَ أُسيءَ إليّ، فلي الحق في أن أسئ إليك بالمثل.

  • ٥- الثقة المفرطة بالنصر:

           حين فقدت سفن أنطونيو، امتلأ قلب شايلوك ثقة بأن لحظة انتقامه قد حانت. بدا واثقًا أن المحكمة ستقف إلى صفه، لأن القانون كان في يده، والعقد كان واضحًا. هذه الثقة المفرطة بالانتصار غذّت شعوره بالتفوق وأضفت على شخصيته مسحة من الغرور والشماتة، إذ أخذ يردد بلا كلل: “أريد حقي المكتوب في العقد”.

     إذن، حين دخل شايلوك قاعة المحكمة، لم يكن مجرد دائن يطالب بحقه، بل كان رجلًا مثقلًا بتاريخ من الكراهية، مسكونًا برغبة في الانتقام، مهووسًا بحرفية القانون، واثقًا أنه سيُذلّ خصمه ويشفي غليله. هذه الخلفية النفسية والشخصية هي التي تفسر سلوكه المتعجرف والمتصلب أثناء المحاكمة، والتي قادته في النهاية إلى الهزيمة الساحقة.

قسوة شايلوك وتشبثه بحرفية القانون

             من أبرز ما يميز مشهد المحاكمة في تاجر البندقية هو أن شخصية شايلوك ظهرت في أقصى درجات القسوة والجمود، إذ جعل من القانون سيفًا يقطّع به أواصر الرحمة، لا مظلةً تحمي العدالة. ولعل هذه النقطة هي التي جعلت حضوره في المحكمة صادمًا، إذ أصر على أن يقرأ القانون بحرفيته الباردة دون أن يفسح مجالًا لأي بعد إنساني أو أخلاقي.

  • ١- العقد كوثن مقدس:

                              لم ينظر شايلوك إلى العقد بوصفه اتفاقًا تجاريًا بين طرفين يمكن إعادة التفاوض بشأنه، بل بوصفه صنمًا مقدسًا لا يجوز المساس به. كان يتعامل معه بصرامة تشبه الطقوس الدينية، وكأنه نص إلهي لا يُمَسّ. هذه القداسة المصطنعة منحت العقد سلطة فوق البشر، وحولت شايلوك إلى عبدٍ لحرفيته، لا إلى سيدٍ له.

  • ٢- رفض التعويض السخي:

                                     حين عرض أنطونيو ومن حوله أن يدفعوا المبلغ مضاعفًا، ثم ثلاث مرات، رفض شايلوك بإصرار. هذا الموقف يكشف عن قسوته، لأن الهدف لم يكن استرداد المال، بل الانتقام من أنطونيو بانتزاع رطل من لحمه. لقد غابت المنفعة المادية في لحظة المحاكمة، وحضر بديلها: شهوة الدم.

  • ٣- منطق القسوة: “الحق لي”:

                                        كلما حاول القاضي أو الدوق مخاطبته بلغة العاطفة، رد شايلوك بجمود: “الحق لي بموجب القانون”. هنا برز الجانب الميكانيكي من شخصيته، فهو لا يرى إلا نصًا مكتوبًا، بينما يُقصي من حساباته كل ما هو إنساني. بدا كمن يختبئ وراء القانون ليبرر قسوته، وكأن القانون ستار يشرعن نزعة الانتقام.

  • ٤- لامبالاة أمام الموت:

                               المرعب في موقف شايلوك أنه لم يُظهر أي ردة فعل أمام فكرة أن يُقتل رجل أمام عينيه لمجرد سداد دين. لم ترف له عين وهو يطالب بقطعة من جسد أنطونيو، بل ظل متشبثًا بالشرط، وكأن حياة الإنسان لا تساوي في نظره شيئًا أمام “قدسية” عقده. هذا الجمود العاطفي هو ما جعل الحاضرين يرون فيه صورة الوحش لا صورة الإنسان.

  • ٥- القسوة كسلاح للغرور:

                                  لقد تحولت قسوة شايلوك إلى أداة لإشباع غروره. فقد أراد أن يثبت للمجتمع الفينيسي الذي طالما ازدرى يهوديته أنه قادر على إذلال أحد أبرز تجاره. وهكذا، صارت المحكمة بالنسبة له ساحة لاستعراض القوة لا ساحة لتحقيق العدالة.

       إن تمسك شايلوك بحرفية القانون لم يكن دليلًا على احترامه له، بل انعكاسًا لروح قاسية فقدت القدرة على التمييز بين العدالة والانتقام. لقد صار القانون أداة لإرضاء نزعة شخصية، لا وسيلة لحماية المجتمع. ومن هنا بدت شخصية شايلوك في المحاكمة متحجرة، جافة، مجردة من أي إحساس بالآخر.

غرور شايلوك وسقوطه في الفخ

            إن من يتابع مشهد المحاكمة في تاجر البندقية يدرك أن غرور شايلوك كان السبب المباشر في سقوطه المدوي. فالرجل دخل المحكمة وهو على يقين تام بالنصر، يتصرف كمنتصر قبل صدور الحكم، ويرى نفسه فوق الجميع. هذا الغرور جعله يغفل عن الحيلة الذكية التي نصبت له، ويسقط في الفخ الذي أوقعه فيه ذكاء القاضي (بورشيا المتنكرة).

  • ١- وهم السيطرة المطلقة:

                                  كان شايلوك يعتقد أن المحكمة ليست سوى إجراء شكلي، وأن الحكم محسوم لصالحه مسبقًا، طالما أن العقد واضح وصريح. هذا الإحساس بالسيطرة جعله يتصرف بغطرسة، وكأنه السيد الذي يُملي شروطه لا مجرد خصم يُستمع إلى أقواله. ومن هنا كان يكرر بإلحاح: “أريد ما ينص عليه القانون”.

  • ٢- تجاهل النصائح والتحذيرات:           

                                           خلال المحاكمة، حاول كثيرون أن يحذّروه أو يذكّروه بأن التمسك الأعمى بحرفية العقد قد يرتد عليه، لكنه رفض الاستماع لأي صوت مخالف. غروره جعله يظن أنه الأذكى، وأن لا أحد يستطيع أن يناوره أو يلتف على حقه المكتوب. لقد أغلق أذنه عن كل نصيحة، وفتح قلبه فقط لصوت انتقامه.

  • ٣- استعراض القوة أمام الحاضرين:

                                                لم يكتف شايلوك بالتمسك بالعقد، بل راح يستعرض قوته أمام الحضور، مستمتعًا برؤية أنطونيو منهارًا، ومصرًا على إذلاله حتى اللحظة الأخيرة. هذا الاستعراض جعله يندفع أكثر في التمسك بموقفه، دون أن يدرك أن كل كلمة كان ينطق بها كانت تضيّق الخناق عليه وتكشف عماه الأخلاقي والقانوني.

  • ٤- الفخ القانوني: دم بلا دماء:

                                        عندما تدخلت بورشيا بذكائها الحاد، وأكدت له أن العقد يعطيه الحق في رطل من اللحم لكن دون أن يسيل “قطرة دم”، وقع شايلوك في الصدمة. لم يكن قد خطر بباله أن يتمسك خصومه بنفس المنطق القانوني الحرفي الذي ظل يلوّح به. لقد حاصرته بحجته نفسها، فوجد نفسه عاجزًا عن التقدم خطوة واحدة.

  • ٥- الانقلاب الدرامي:

                            في لحظة واحدة، تحول شايلوك من موقع القوة إلى موقع الضعف، من سيد المحكمة إلى متهم يترنح. غروره الذي ملأه ثقة بالنصر صار وبالًا عليه، لأنه أعمى بصيرته عن الحيلة التي أُعدت له. لقد سقط في الفخ الذي نصبه لنفسه: الاعتماد الأعمى على حرفية النصوص، دون أن يدرك أن القانون قد يُقرأ بطريقة تقلب الموازين.

       وهكذا، فإن غرور شايلوك كان أكثر ما فضحه وأسقطه في المحاكمة. لقد دخلها منتصرًا وخرج منها مهزومًا، دخلها متعاليًا وخرج منها ذليلًا، دخلها ممسكًا بالعقد وخرج منها فاقدًا لكل شيء. إن سقوطه لم يكن مجرد خسارة قانونية، بل كان سقوطًا أخلاقيًا ونفسيًا مدويًا، أظهر كيف يمكن للغرور أن يُعمِي صاحبه عن أبسط الحقائق.

براعة القاضي (بورشيا) في إدارة المحاكمة

              من أروع ما أبدعه شكسبير في تاجر البندقية هو تصويره لمشهد المحاكمة باعتباره صراعًا ليس فقط بين أنطونيو وشايلوك، بل بين الرحمة والقسوة، والذكاء والغرور، والإنسانية وجمود النصوص. وفي قلب هذا المشهد تبرز شخصية بورشيا، التي تنكرت في زي قاضٍ وجاءت لتدير الجلسة بحكمة ودهاء فاق كل التوقعات. لقد كانت هي العقل الذي حوّل مجرى الأحداث، وانتزع أنطونيو من بين أنياب الموت، وأسقط شايلوك في شباك حجته نفسها.

  • ١- دخول هادئ وثقة متزنة:

                                     دخلت بورشيا قاعة المحكمة بوقار وثقة، لا تحمل معها سيفًا أو سلطة قوة، بل سلاح العقل والكلمة. ومنذ اللحظة الأولى، فرضت احترامها على الجميع بطريقة هادئة، منحتها مكانة القاضي النزيه الذي ينظر إلى القضية بعين العدالة لا العاطفة. هذا الهدوء جعلها تمسك بخيوط النقاش وتديره بمهارة فائقة.

  • ٢- خطاب الرحمة الشهير:

                                   قبل أن تلجأ إلى الحيلة القانونية، ألقت بورشيا خطابًا بليغًا عن الرحمة، اعتبر من أجمل المقاطع في المسرحية. خاطبت شايلوك بلسان الإنسانية، قائلة إن الرحمة “تنزل من السماء كالغيث”، وأنها تاج يزين العدل ويجعله أكثر سموًا. بهذا الخطاب حاولت أن تفتح في قلبه نافذة للين، وأن تضع أمامه خيار التسامح بدلاً من الانتقام. لكن شايلوك، بعناده وغروره، رفض أن يستمع لصوت الرحمة.

  • ٣- الإيهام بمساندة شايلوك:

                                     ببراعة مسرحية، تظاهرت بورشيا في البداية بأنها تؤيد حق شايلوك، وأعلنت أن العقد صحيح وأن من حقه أن ينال رطل اللحم من أنطونيو. هذا الإيهام جعله يزداد غرورًا ويظن أن الحكم قد صدر لصالحه بالفعل. غير أن هذه الخطوة لم تكن سوى مقدمة للكمين الذي أعدته له.

  • ٤- الحيلة القانونية: اللحم دون الدم:

                          عندما تأكدت بورشيا من أن شايلوك وصل إلى ذروة غروره، ألقت بالقنبلة القانونية: “خذ رطلك من اللحم، ولكن دون أن تسيل قطرة دم، لأن العقد نص على اللحم ولم يذكر الدم.” هذه اللحظة مثلت ذروة الذكاء القانوني في المسرحية، إذ استخدمت نفس منطق شايلوك القائم على الحرفية لتقلبه عليه.

  • ٥- انقلاب الموازين:

                          في لحظة واحدة، وجد شايلوك نفسه محاصرًا: إن أخذ اللحم سفك الدماء، فيُدان بجريمة قتل؛ وإن لم يأخذ اللحم خسر قضيته. وهكذا تحولت قوته إلى ضعف، وغروره إلى ذل، وانتصاره المزعوم إلى هزيمة نكراء. لقد أدار القاضي ـ أي بورشيا ـ المحاكمة بمهارة شطرنجية، حركت فيها القطع خطوة خطوة حتى أسقطت الملك.

  • ٦- عدل ممزوج بالحكمة:

                                  ما يميز براعة بورشيا أنها لم تهزم شايلوك بالتحايل فحسب، بل قدمت درسًا عميقًا في معنى العدالة. لقد أثبتت أن العدل الحقيقي لا يقوم فقط على تطبيق النصوص، بل على فهم روحها، وأن الرحمة ليست ضعفًا بل قوة مضاعفة. وبذلك رفعت المحاكمة من مجرد نزاع مالي إلى ساحة فلسفية كبرى حول طبيعة العدل والرحمة.

       لقد جسدت بورشيا في المحاكمة صورة القاضي المثالي: الحكيم، العادل، البليغ، الذي يحسن قراءة النصوص لكنه لا يتجاهل القيم الإنسانية. وبفضل ذكائها، لم تُنقذ أنطونيو فحسب، بل كشفت أيضًا عورات شايلوك، وأظهرت أن من يعتمد على القسوة وحدها يسقط أمام أضعف ثغرة.

      من خلال المحاكمة الشهيرة في تاجر البندقية، يتجلى أمامنا نموذج أدبي شديد الثراء، يخلط بين البعد الإنساني والبعد الدرامي والبعد الرمزي. شخصية شايلوك – اليهودي المرابي – ظهرت في أوج تعاليها وغرورها وقسوتها، متمسكةً بحرفية القانون دون روح العدالة، فبدت متعجرفة قاسية مغرورة، لا ترى في الآخر سوى فريسة لإشباع نزعتها الانتقامية. غير أن المحاكمة قلبت موازين القوة؛ إذ انتقل شايلوك من موقع الهجوم إلى موقع الدفاع، ومن التكبر إلى الذل، ومن المطالبة بـ«رطل من لحم» إلى فقدان كل أمواله وانهيار مكانته.

      لقد أدار القاضي المتخفي (بورشيا) الجلسة ببراعة بارعة: لم تجادل شايلوك بالعاطفة، بل تركته يغرق في تعنته، حتى صار أسيراً لنصوص القانون التي تشبث بها. ثم باغتته بتفسير أدق وأذكى، كشف تناقضه وأوقعه في فخّ نصوص القانون ذاته، فخسر القضية وخرج مفلساً. هذه البراعة في إدارة المحاكمة أبرزت كيف يمكن للعدل الحقيقي أن ينتصر لا بالقوة المادية، بل بالحكمة والفطنة والقدرة على كشف نوايا الخصم.

      انتهت القصة واليهودي شايلوك ذليل مهزوم، بعدما كان واثقاً متعجرفاً، فظهر التناقض الجوهري بين الغرور الإنساني حين يظن أنه فوق القانون، وبين مكر العدالة حين تأتيه من حيث لا يحتسب. 

فالمسرحية في مجملها تظل درساً أدبياً عميقاً في أن القسوة والغرور مهما بدوا متماسكين، فإنهما يتهاويان أمام براعة العدالة وقوة المنطق.

     إن شايلوك سقط ذليلاً أمام منصة القضاء، فالقانون كفيل بأن يرد الحق لأصحابه، وإن طال الطريق.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

نبذة عنا

صحيفة سي جاي العربية هي واحدة من اهم اصدارات شركة Castle Journal البريطانية الدولية لانتاج الصحف والمجلات و مقرها لندن – المملكة المتحدة البريطانيه.

CJ  العربية © Published by Castle Journal LTD.