Some Populer Post

- النقد - الأدب

جودت هوشيار: 

عقل نقدي يضيء مساحات معتمة في الثقافة العربية بقلم المستشار/ أحمد المندراوي      في عالم عربي كثير الانشغال بالسياسة ومتقلب الهوية الثقافية، يبرز بعض المفكرين والكتّاب بوصفهم ضميرًا نقديًّا ومرايا صافية تنعكس عليها أزمات الوعي الجمعي، وتسعى لتحليله وفهمه لا تبريره أو تعزيزه. من بين هؤلاء يسطع اسم جودت هوشيار، الكاتب والمترجم والناقد العراقي، الذي […]

IMG 0009

عقل نقدي يضيء مساحات معتمة في الثقافة العربية

بقلم المستشار/ أحمد المندراوي 

    في عالم عربي كثير الانشغال بالسياسة ومتقلب الهوية الثقافية، يبرز بعض المفكرين والكتّاب بوصفهم ضميرًا نقديًّا ومرايا صافية تنعكس عليها أزمات الوعي الجمعي، وتسعى لتحليله وفهمه لا تبريره أو تعزيزه. من بين هؤلاء يسطع اسم جودت هوشيار، الكاتب والمترجم والناقد العراقي، الذي خطّ لنفسه مسارًا فكريًّا متفردًا يجمع بين العمق، والرصانة، والانفتاح على التجربة الإنسانية الأوسع، دون التفريط في الالتزام الثقافي.

من هو جودت هوشيار؟

      جودت هوشيار كاتب عراقي كردي، وُلد في مدينة السليمانية، ودرس الهندسة المعمارية في الاتحاد السوفيتي السابق، قبل أن يتحول إلى حقل الأدب والنقد والترجمة، مستفيدًا من إقامته الطويلة في موسكو، واطلاعه العميق على الأدب الروسي والثقافة السلافية. لم يكن مجرد ناقلٍ للنصوص من الروسية إلى العربية، بل كان مفسرًا ومحللاً ومُجددًا في طريقة عرض هذه النصوص وتعاطي القرّاء العرب معها.

      وقد نُشرت مقالاته وترجماته وتحليلاته الفكرية في العديد من الدوريات العربية، من بينها صحيفة “القدس العربي” و”إيلاف” و”الحوار المتمدن” و”المدى”، وغيرها. اشتهر بأسلوبه الرصين، وخطابه العقلاني، ونقده الهادئ والموضوعي، البعيد عن الشعارات والتهييج الأيديولوجي.

المنهج الفكري: 

                  العقلانية ومقاومة الانغلاق

يتسم فكر جودت هوشيار بملامح عقلانية واضحة، فهو يجنح دومًا إلى التحليل المنطقي، ورفض التبسيط السطحي للوقائع. يرى أن الأيديولوجيا حين تستبد بالفكر تُعميه، وأن النزعة الشعبوية تُفسد الذوق العام. لذلك، يحارب الخرافة، والتأليه الثقافي، والتبعية، سواء للغرب أو للتراث، داعيًا إلى قراءة نقدية لكل إنتاج ثقافي.

     يؤمن هوشيار أن الترجمة ليست مجرد نقل حرفي بل هي جسر للمعرفة والفهم الحضاري، وبالتالي فإن المترجم ينبغي أن يكون قارئًا جيدًا ومثقفًا واسع الأفق، لا مجرد لغوي. ولهذا، فإن معظم ترجماته تُسبق أو تُعقّب بمقدمات تحليلية أو تعليقات تضع النص في سياقه الثقافي والتاريخي، وتكشف عن دلالاته الأعمق.

      كما يتبنى في كتاباته الفكرية رؤية علمانية إنسانية، تحتكم إلى العقل والنقد المعرفي، وترفض الانغلاق الديني أو القومي. لا يعنيه استرضاء الجماهير أو السلطات، بل يسعى إلى قول ما يراه صحيحًا، حتى لو لم يلقَ ترحيبًا. هذه النزعة النقدية جعلته دائمًا أقرب إلى المثقف المستقل، أكثر من قربه إلى المثقف الرسمي أو المؤدلج.

الترجمة بوصفها فعلاً فكريًّا:

                                      من أبرز إسهامات جودت هوشيار هي ترجماته للأدب الروسي المعاصر والحديث، ولا سيما أعمال أناتولي ريباكوف، وبوريس باسترناك، وسفيتلانا أليكسييفيتش، وغيرهم. ولا يقتصر اهتمامه على الرواية الروسية، بل يمتد إلى السيرة الذاتية، والمقالة الأدبية، والفكر النقدي.

    أحد أبرز أعماله المترجمة كتاب “أرخبيل غولاغ” للكاتب الروسي ألكسندر سولجينتسين، والذي كشف فيه فظائع معسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفيتي. وقد حرص هوشيار على نقل الكتاب بلغة عربية رصينة، دون أن يفقد حرارة النص الأصلي أو بعده الإنساني الموجع.

    يؤمن هوشيار أن الترجمة العربية للأعمال الفكرية والأدبية العالمية تعاني من أزمة، ليست فقط في الدقة، ولكن في الفهم. لذلك فهو يولي أهمية كبرى لخلفية المترجم الثقافية، ويعتبر أن من يترجم عملاً أدبيًّا دون معرفة بثقافة الكاتب، وسياق زمنه، ومدارسه الأدبية، يقدم نصًّا مشوّهًا، لا يخدم القارئ العربي.

مقالاته النقدية:

                    فضح التزييف الثقافي

يتميز أسلوب جودت هوشيار النقدي بالدقة والحيادية، لكن دون أن يفقد نبرته الساخرة حين يفضح التزييف. كتب كثيرًا عن ظاهرة “الجوائز الأدبية”، و”تصنيم الكتّاب”، و”الشللية الثقافية”، معرّيًا التناقض بين الخطاب الثقافي المعلن، والممارسات الفعلية داخل الأوساط الأدبية.

     في مقال شهير له بعنوان “صناعة الكتّاب في العالم العربي”، يحلل كيف يتم الترويج لكتّاب معينين عبر الإعلام والجوائز والمؤسسات الثقافية، بينما يُقصى آخرون أكثر جدارة. ويرى أن هذا الترويج لا ينبع دائمًا من القيمة الأدبية بل من مصالح العلاقات العامة والثقافية، مما يؤدي إلى تضليل القارئ، وإفساد الذائقة العامة.

    كذلك تطرّق في مقالاته إلى أزمة حرية التعبير في العالم العربي، معتبرًا أن المشكلة لا تقتصر على رقابة السلطة السياسية، بل تشمل أيضًا الرقابة المجتمعية والدينية والنفسية. يقول: “الأخطر من الرقيب الخارجي هو الرقيب الداخلي الذي يجعل الكاتب يخشى الخروج عن الإجماع، أو يحاذر من طرح الأسئلة الصعبة”.

قراءة جمالية متأنية للنصوص:

                                        رغم اهتمامه بالسياسة والفكر، إلا أن جودت هوشيار لا يغفل الجانب الجمالي في النصوص الأدبية. ففي تحليله لرواية “الدكتور جيفاكو” لـبوريس باسترناك، يعرض بنية الرواية، والرموز الدينية الكامنة فيها، والتناصّات مع الإنجيل، دون أن يغرق في التفكيك النظري، بل يظل وفيًّا لروح الرواية.

     في مقالاته عن الشعر العربي، ينتقد ما يراه فوضى الشكل والمعنى في بعض التجارب الحديثة، ويطالب بأن يعود الشعر إلى بلاغته الجوهرية، لا بلاغته الخطابية. لكنه لا ينحاز إلى مدرسة واحدة، بل يحتفي بالتجريب الحقيقي القائم على الموهبة، لا الادعاء.

نقد الذات والهوية: 

                         المثقف في المرآة

لعل من أبرز ميزات جودت هوشيار أنه يمارس نقدًا ذاتيًا دائمًا للمثقف، ولا يضع نفسه فوق النقد. يرى أن كثيرًا من المثقفين في العالم العربي تخلوا عن أدوارهم التنويرية، إما بسبب الإغراءات السلطوية، أو بدافع الإحباط والهروب. يكتب في أحد مقالاته:

 “ليست المأساة في أن نُمنع من التعبير، بل في أن نعتاد الصمت. حين يفقد المثقف شجاعته، يُخلي مكانه لآخرين أقل وعيًا وأكثر جرأة على الكذب.”

كما ينتقد هوشيار الانغلاق القومي أو العرقي لدى بعض المثقفين الكرد أو العرب، داعيًا إلى رؤية أكثر إنسانية تتجاوز الهويات الضيقة نحو وعي كوني. ويعتبر أن الأدب الحقيقي لا يعترف بالحدود، بل ينتمي إلى الإنسان أينما كان.

المثقف والموقف من الحداثة:

                                       يمتلك جودت هوشيار حساسية عالية تجاه مفهوم الحداثة، ويرى أنها ليست مجرد تجديد شكلي، بل تحوّل في طرائق التفكير. لذلك يرفض أن يُسمّى كل نص حديث بلفظه، دون أن يمتلك أدوات الحداثة: التساؤل، التعدد، تعقيد البنية، ورفض النماذج الموروثة.

     في دراسته لبعض الكتاب الروس، مثل ميخائيل بولغاكوف، يُبرز كيف أن الحداثة لا تعني القطيعة مع الماضي، بل استيعابه بطريقة نقدية وإبداعية. ويقارن هذا مع بعض التجارب العربية التي إما تكرر الماضي أو تنقل الحداثة بصيغتها الغربية دون تمثل.

جودت هوشيار والصوت الكردي المستقل:

                                                         بصفته كاتبًا كرديًّا، لم يسجن جودت هوشيار نفسه في القضايا القومية الضيقة، بل تحدث دائمًا عن الإنسان الكردي ضمن السياق الحضاري العام. لم يركب موجة الخطاب القومي العاطفي، بل سعى لفهم المأساة الكردية ضمن بنية أوسع من الصراع السياسي.

     كتب عن الأدب الكردي، وخصوصًا السرد الشفهي، لكنه أصرّ على ضرورة ترجمة الأدب الكردي إلى لغات العالم ليكتسب صوتًا عالميًّا. ويعتبر أن الترجمة من الكردية إلى العربية والعكس هي مسؤولية تاريخية تقع على عاتق المثقفين الأكراد.

الكاتب الذي لا يهادن:

                             خلاصة فكر جودت هوشيار تكمن في كونه كاتبًا لا يهادن، لا السلطة ولا القطيع، لا الأيديولوجيا ولا العاطفة. يؤمن أن مهمته ليست أن يرضي، بل أن يفكّر بصوت مسموع، ويطرح الأسئلة الحرجة حتى لو لم يجد إجابات.

     وهو يدرك أن الثقافة ليست استعراضًا لغويًّا، بل معركة فكرية ضد الجهل والتعصب والتكرار. لذلك تظل كتاباته، سواء كانت ترجمة أو نقدًا أو تحليلًا، محفّزة للعقل، ومربكة للكسل الفكري، ومنبهة للوعي في زمن كثُر فيه الضجيج وقلّ فيه الفكر.

 إرث ثقافي حي:

                       إن جودت هوشيار، بما قدّمه من ترجمات نوعية، ومقالات نقدية عميقة، وتحليلات فكرية دقيقة، يُعدّ من أبرز الأصوات الثقافية العراقية والعربية التي حافظت على بوصلتها الفكرية في زمن الانقسامات والتنازلات. هو صوت الهدوء وسط العاصفة، وصوت العقل وسط الغرائز، وصوت المثقف الحقيقي في زمن انكشاف الأقنعة.

      ولعلّ أبرز ما يميّز إرثه الثقافي هو كونه حيًّا ومتجددًا، قابلًا للنقاش والتفاعل، لا جامدًا ومغلقًا. فهو لم يكتب ليُحفظ، بل كتب ليفتح بابًا للتفكير الحر، ويُشعل شمعةً في نفق طويل من الالتباس الثقافي.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

نبذة عنا

صحيفة سي جاي العربية هي واحدة من اهم اصدارات شركة Castle Journal البريطانية الدولية لانتاج الصحف والمجلات و مقرها لندن – المملكة المتحدة البريطانيه.

CJ  العربية © Published by Castle Journal LTD.