جماليات التلقي في النقد العربي: نحو وعي جمالي مبكر (٣)
القاهرة / مصر / ١٧ نوفمبر ٢٠٢٥
بقلم المستشار / أحمد المندراوي
يُعدّ مفهوم التلقي من أبرز المفاهيم التي احتلّت مكانة مركزية في النقد الأدبي الحديث، خصوصًا مع بروز مدارس التلقي في الفكر الغربي مثل مدرسة كونستانس الألمانية التي جعلت المتلقي محور العملية الأدبية.
غير أنّ المتأمل في التراث النقدي العربي يكتشف أن فكرة التلقي ليست وافدة أو دخيلة، بل هي متجذّرة في بنية الفكر العربي منذ بداياته، وإنْ لم تتبلور آنذاك في صورة نظرية متكاملة كما هي اليوم.
فالنقاد العرب القدماء، من الجاحظ إلى عبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني، قد تناولوا، بوعي فلسفي وجمالي مبكر، العلاقة بين النص والمتلقي، ووقفوا عند أثر الكلمة في النفس، وتفاعل السامع أو القارئ مع الخطاب الأدبي.
يهدف هذا المقال إلى تتبّع الوعي الجمالي في النقد العربي القديم من خلال تحليل الرؤى التي تشكّل فيها مفهوم التلقي، بوصفه أحد المداخل الأساسية لفهم الجماليات الكامنة في النص الأدبي، واستكشاف كيف أسّس العرب لمفاهيم الذوق، والاستجابة، والفاعلية الجمالية في تلقي العمل الأدبي.
أولًا: التلقي بين الذوق والانفعال في الموروث العربي:
منذ البدايات الأولى للنقد العربي ارتبط الحديث عن جودة الشعر أو بلاغة الكلام بما يُحدثه في النفس من أثر وانفعال.
فالعرب لم ينظروا إلى النص الأدبي بوصفه بناء لغويًا فحسب، بل بوصفه خطابًا موجّهًا نحو المتلقي يثير فيه الإعجاب أو الدهشة أو اللذة أو النفور.
وقد عبّر النقاد الأوائل عن هذا البعد الانفعالي بمفاهيم مثل الطرب والاستحسان والإطراب، وهي مصطلحات تعبّر عن استجابة المتلقي لا عن النص في ذاته.
في سوق عكاظ مثلًا، كانت القصيدة تُعرض على جمهور يسمعها فيتفاعل معها بالتصفيق أو الإعجاب أو النقد، وهذا ما يجعل التلقي جزءًا من تكوين النص ذاته.
ومن هنا يمكن القول إن الوعي الجمالي عند العرب بدأ ذوقيًا قبل أن يصبح نظريًا؛ إذ كان يُقاس جمال القول بقدر تأثيره في السامعين.
ومن الأمثلة البارزة قولهم في وصف الشعر الجيد إنه «ما أعجب القلوب وأطرب الأسماع»، وهي عبارة تكشف عن إدراك مبكر لفاعلية التلقي بوصفه مكوّنًا من مكونات الجمال الفني.
ثانيًا: الجاحظ وبذور الوعي الجمالي بالتلقي
يُعدّ الجاحظ (ت ٢٥٥هـ) من أوائل النقاد الذين نظّروا ضمنيًا لمفهوم التلقي في كتابه البيان والتبيين والحيوان.
فقد نظر إلى اللغة لا كأداة للتواصل فحسب، بل كوسيلة لإحداث التأثير في المتلقي.
يقول الجاحظ: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء».
هذه العبارة تختزن رؤية عميقة تُحيل على ما يمكن أن نسميه اليوم «جماليات التلقي»، إذ إن الجاحظ يرى أن قيمة القول لا تُقاس بمعناه وحده، بل بأثر أدائه اللغوي في المتلقي.
فالبيان عنده يقوم على التفاعل بين المتكلم والسامع، وبين اللفظ والنفس، مما يدل على وعي بأن النص لا يكتمل إلا في تجربة التلقي.
كما أن الجاحظ كان يرى البلاغة في مطابقة الكلام لمقتضى الحال، أي في إدراك المتكلم لحالة المتلقي النفسية والاجتماعية، وهي فكرة تتصل مباشرة بنظرية «أفق التلقي» في النقد الحديث.
لقد فهم الجاحظ أن المعنى الجمالي ليس خاصية ساكنة في النص، بل عملية تفاعلية بين النص والعقل والذوق.
ثالثًا: عبد القاهر الجرجاني والتلقي بوصفه فاعلية عقلية وجمالية
مع عبد القاهر الجرجاني (ت ٤٧١هـ) بلغ الوعي الجمالي بالتلقي درجة من العمق الفلسفي لم يعرفها النقد العربي من قبل.
ففي نظريته عن النظم في كتاب دلائل الإعجاز، لا يتحدث الجرجاني عن الجمال بوصفه خصيصة لغوية، بل بوصفه علاقة بين المعاني والألفاظ في ذهن المتلقي.
فهو يرى أن البلاغة ليست في الكلمة المفردة، بل في كيفية تأليفها بحيث تحدث تأثيرًا خاصًا في الفهم والذوق.
يقول:
«اعلم أن ليس النظم سوى أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهج القول فيه».
ومعنى هذا أن الجمال يتجلّى في النظام الذهني الذي يستقبله القارئ ويعيد بناءه أثناء القراءة.
لقد أسّس الجرجاني من خلال ذلك رؤية مبكرة لما يسميه النقد الحديث التأويل الجمالي، إذ جعل من المتلقي شريكًا في إنتاج المعنى.
فالنص عنده ليس كيانًا مكتفيًا بذاته، بل هو بنية مفتوحة على الفهم والتأمل.
وبهذا يكون الجرجاني قد أسّس لفكرة التلقي من منظور عقلاني فلسفي، يجعل الجمال نتاجًا للتفاعل بين النص والعقل الذائق.
رابعًا: حازم القرطاجني وجماليات التلقي بوصفها رؤية فلسفية:
يُعدّ حازم القرطاجني (٦٠٨–٦٨٤هـ) ذروة تطوّر الفكر الجمالي في التراث العربي، إذ قدّم في كتابه منهاج البلغاء وسراج الأدباء رؤية فلسفية متكاملة لفعل الإبداع والتلقي. فهو يرى أن الشعر لا يحقّق غايته إلا إذا أحدث انفعالًا جماليًا في نفس المتلقي، وأن وظيفة الشاعر أن «يُحرّك النفس نحو غاياتها بالتصوير والمحاكاة».
بهذا يكون حازم قد نقل النظرية النقدية من مستوى البلاغة اللغوية إلى مستوى الفعل الجمالي في الوجدان.
فالتلقي عنده ليس مجرد استجابة حسية، بل تجربة روحية عقلية تتفاعل فيها المعرفة بالوجدان.
وقد تأثر حازم بالفكر الأرسطي، لكنه أعاد صياغته في ضوء الرؤية الإسلامية للإنسان، فجعل الجمال وسيلة لترقية الذوق وإحياء العقل، وأشار إلى أن الشاعر الحق هو الذي يستطيع أن «يأسر المتلقي بخياله»، وهو تعبير يسبق بكثير المفاهيم الحديثة عن “التلقي الجمالي” و”الاستجابة الانفعالية”.
إن القرطاجني بذلك يمثّل الوعي الجمالي العربي في أرقى صوره، لأنه دمج بين الفلسفة والمنطق والبلاغة ليصل إلى تصور شامل عن طبيعة التأثير الجمالي في المتلقي.
خامسًا: الذوق بوصفه أفقًا للتلقي الجمالي:
الذوق في التراث العربي ليس مجرد ميل أو إحساس، بل هو قدرة نقدية تقوم على التمييز بين الجميل وغير الجميل، وهو أقرب ما يكون إلى مفهوم الحس الجمالي في النقد الحديث.
وقد نظر إليه النقاد باعتباره معيارًا يتشكل من الثقافة والخبرة، لا من الانطباع الفردي وحده. يقول ابن طباطبا العلوي في عيار الشعر:
«الشعر صناعة وضرب من التصوير، فحسن الكلام كحسن الصورة».
هذه الرؤية تفترض قارئًا ذا حسّ فني، قادرًا على إدراك العلاقات الجمالية بين الصورة والمعنى، أي أنها تفترض وجود متلقٍّ ذي وعي جمالي يشارك في صنع القيمة الفنية للنص.
وهكذا، فإن الذوق في النقد العربي القديم يمثل بذرة لنظرية التلقي، لأنه يربط جمال النص بقدرة المتلقي على إدراكه واستيعابه، أي أن الجمال ليس في النص وحده بل في اللقاء بين النص والذهن المتذوق.
سادسًا: البنية الجمالية للتلقي في التراث العربي:
إذا أردنا تحديد ملامح البنية الجمالية للتلقي في التراث العربي، أمكننا أن نرصد ثلاث ركائز أساسية:
١- الفاعلية النفسية: حيث يُنظر إلى التلقي بوصفه تجربة وجدانية تحدث في النفس انفعالًا ولذة، كما في وصف النقاد القدماء للطرب والتأثر بالشعر.
٢- الفاعلية العقلية: إذ يتطلّب التلقي فهم العلاقات بين المعاني والألفاظ، وهي الفكرة التي بنى عليها الجرجاني نظريته في النظم.
٣- الفاعلية الأخلاقية والجمالية: حيث رأى النقاد أن الجمال الحقيقي هو ما يرقّي الذوق ويهذب النفس، كما عند حازم القرطاجني.
هذه الركائز الثلاث تشكل نواة ما يمكن تسميته الوعي الجمالي المبكر، الذي جعل النقد العربي يوازن بين اللذة الفنية والغاية الفكرية والأخلاقية، وهو ما تفتقده كثير من النظريات الحديثة التي تفصل بين الجمال والقيمة.
سابعًا: التلقي في ضوء الجماليات الحديثة:
عند المقارنة بين تصورات النقاد العرب القدماء ومفاهيم التلقي الحديثة كما طوّرها هانس روبير ياوس وفولفغانغ إيزر في مدرسة كونستانس، نكتشف أن العرب قد سبقوا من حيث الجوهر إلى فكرة أن النص لا يعيش إلا في وعي قارئه، وأن المعنى لا يكتمل إلا في لحظة التفاعل الجمالي.
فعبد القاهر حين تحدّث عن علاقة النظم بالفهم، وحازم حين جعل التأثير غاية الشعر، كانا يؤسّسان لما نسميه اليوم «جماليات التلقي».
والفرق أن العرب صاغوا هذه الفكرة بلغة الذوق والبيان، بينما صاغها المحدثون بلغة الفلسفة النقدية.
لكن في الحالتين يبقى المتلقي ركنًا أصيلًا في العمل الأدبي، وهو ما يؤكد أن النقد العربي لم يكن ناقصًا في وعيه الجمالي، بل كان سابقًا في طرح الأسئلة الجوهرية حول طبيعة الفن والتأثير.
ثامنًا: نحو وعي جمالي فلسفي بالنص العربي:
يُظهر التراث النقدي العربي أن الجمال في النص ليس خاصية خارجية، بل تجربة وجودية تجمع بين الفكر والعاطفة، بين اللغة والخيال. وهذا ما يجعل الوعي الجمالي عند العرب وعيًا فلسفيًا وإنسانيًا في آن واحد.
لقد أدرك الجاحظ والجرجاني والقرطاجني أن المتلقي ليس كائنًا سلبيًا، بل فاعلًا يشارك في بناء المعنى، وأن النص الجيد هو الذي يفتح أمامه أفق التأمل والدهشة.
ومن هنا تتجلى فلسفة الجمال العربي في قدرتها على الربط بين البلاغة والعقل، بين الذوق والتفكير، وهي المزاوجة التي جعلت التراث النقدي العربي ثريًا بما يكفي ليوازي أرقى النظريات الحديثة.
إن البحث في جماليات التلقي في النقد العربي القديم يكشف عن أن العرب لم يكونوا مجرد ذواقة للشعر، بل كانوا فلاسفة للجمال بالمعنى الواسع للكلمة. فقد أدركوا منذ وقت مبكر أن الأدب لا يكتمل إلا في وعي المتلقي، وأن الجمال هو فعل تفاعل بين النص والعقل والوجدان. ومن خلال جهود الجاحظ والجرجاني والقرطاجني وغيرهم، تبلور وعي جمالي مبكر أسّس لمفهوم عربي أصيل للتلقي قبل أن يُصاغ هذا المفهوم في النظريات الغربية بقرون.
إن استعادة هذا الوعي اليوم ليست عودة إلى الماضي، بل استنهاض لجذور التفكير الجمالي العربي الذي جعل من الفن طريقًا للمعرفة ومن التلقي لحظة للوعي الإنساني العميق.



