Some Populer Post

- معتقدات و ديانات

البابا والزعيم

بقلم القس ؛ بولا رياض فؤاد كانت العلاقة بين البابا كيرلس السادس والزعيم جمال عبد الناصر في بدايتها علاقة فاترة، ولكن الله القادر على كل شيء، الذي يخرج من الجافي حلاوة، حوّل هذه العلاقة إلى محبة وصداقة وطيدة، حتى أن الزعيم كان يعتاد أن ينادي البابا قائلاً: “يا والدي” منذ تولّي قداسة البابا كيرلس السادس […]

969b99f5 6565 4f9d 8cd9 63f8a0c56b35 scaled

بقلم القس ؛ بولا رياض فؤاد

كانت العلاقة بين البابا كيرلس السادس والزعيم جمال عبد الناصر في بدايتها علاقة فاترة، ولكن الله القادر على كل شيء، الذي يخرج من الجافي حلاوة، حوّل هذه العلاقة إلى محبة وصداقة وطيدة، حتى أن الزعيم كان يعتاد أن ينادي البابا قائلاً: “يا والدي”

منذ تولّي قداسة البابا كيرلس السادس – البطريرك رقم ١١٦ – رئاسة الكنيسة في ١٠ مايو ١٩٥٩، حاول مرارًا مقابلة الرئيس عبد الناصر لعرض بعض المشكلات والمضايقات التي يعاني منها الأقباط، لكن طلبه لم يُستجَب في البداية.

حدث تحول جذري غيّر مجرى الأمور. كان للبابا صديق عضو في مجلس الشعب، وكان هذا العضو يكنّ له محبة خاصة، وقد شُفي ابنه بصلوات البابا. وفي زيارة لاحقة، وجد هذا العضو البابا متضايقًا، فسأله عن السبب، وعندما علم بالأمر قال له: “علاقتي بعبد الناصر طيبة، وسأرتب لك موعدًا معه”.

بالفعل، اصطحب هذا العضو البابا بسيارته إلى القصر الجمهوري، وهناك استقبل عبد الناصر البابا بفتور شديد قائلاً بانفعال:

“إيه؟ فيه إيه؟ هم الأقباط عايزين حاجة أحسن من كده؟ مطالب، مطالب، مطالب!”

. فرد البابا مبتسمًا

: “مش تسألني وتقول لي في إيه؟”. فقال ناصر بعصبية: “هو فيه وقت أقول لك وتقول لي؟ مفيش حاجة!”. فغضب البابا وقال: “ده بدل ما تستقبلني وتحييني بفنجان قهوة وتسمعني؟ وفي الآخر، يا تعمل يا ما تعملش، ما تحاولش تفهمني إن مفيش وقت!”، وغادر المكان غاضبًا قائلاً:

“ربنا يسامحك

في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، حضر عضو مجلس الشعب إلى المقر البابوي، وأخبر البوّاب أن عبد الناصر يطلب مقابلة البابا فورًا. حاول التلميذ سليمان الاعتذار، لكن قبل أن يطرقوا باب قداسة البابا، وجدوه مرتديًا ملابسه ويقول: “يلّا يا أخويا”. فقد كانت لابنة عبد الناصر أزمة صحية عجز الأطباء عن تفسيرها، وقد أشار العضو إلى ما فعله البابا مع ابنه، فأراد ناصر أن يطلب منه الصلاة من أجلها.

دخل البابا غرفة الفتاة وقال مبتسمًا:

“إنتِ ولا عيانة ولا حاجة”، وصلى لها قرابة ١٥ دقيقة، فشُفيت. ومنذ تلك اللحظة، تحولت العلاقة إلى صداقة قوية. قال عبد الناصر:

“من النهارده، إنت أبويا، وهقول لك يا والدي على طول، وزي ما بتصلي لأولادك المسيحيين، صلي لأولادي. ومن دلوقتي، ما تجليش القصر الجمهوري… البيت بيتك”.

بات البابا كيرلس يدخل القصر الرئاسي متى شاء، واستفاد كثيرًا من علاقته بالرئيس في حل العديد من المشكلات، وكان دومًا يحرص على تفادي إثارة الأزمات.

في عام ١٩٥٩، قال قداسة البابا:

“بعون الرب سأعمل على تعليم أبنائي معرفة الرب وحب الوطن، ومعنى الأخوّة الحقة، ليشبّ الوطن وحدة قوية لديها الإيمان بالرب والحب للوطن”. فأثنى عبد الناصر على وطنيته ووعيه.

سألت منى عبد الناصر يومًا المستشار زكي شنودة، الذي كانت تربطه علاقة قوية بالبابا: “البابا بتاعكم فيه إيه؟”، وعندما سألها ماذا تقصد، قالت: “بابا لما بيجي له أي رئيس دولة، بيوصله لباب الصالون فقط، لكن لما بييجي البابا بتاعكم، بيوصله لباب العربية ويفضل واقف لحد ما العربية تتحرك!”. فأجابها المستشار: “لأنه رجل بسيط، لا يطلب شيئًا، ولا يخاف منه في شيء، ولا يطمح في أي مكسب… وأبوك كان شاعر بكده، فعشان كده أحبه”.

اعتاد قداسة البابا زيارة الرئيس في منزله، وذات مرة جاءه أولاده يحملون حصّالاتهم، وقال له عبد الناصر: “علمت أولادي إن اللي يتبرع لكنيسة زي اللي يتبرع لجامع، ولما عرفوا إنك بتبني كاتدرائية، قرروا يساهموا بحصيلتهم، وأرجوك ما تكسفهم”. ففتح البابا منديله، ووضعوا فيه تبرعاتهم، وشكرهم وباركهم. وكان هذا المبلغ، إلى جانب تبرعات الناس الصغيرة، هو ما استطاع به البابا شراء أرض دير مارمينا بمريوط.

طلب البابا لاحقًا مقابلة الرئيس لعرض مشكلة المجلس الملي، الذي فشل في أداء مهامه، مما تسبب في أزمة مالية للكنيسة. فاستقبله الرئيس بحفاوة، وأصدر قرارًا جمهوريًا بإنشاء مجلس إدارة لأوقاف البطريركية وحلّ المجلس الملي. كما تبرع بمبلغ عشرة آلاف جنيه لسداد عجز الميزانية، وهو مبلغ كبير حينها.

عند وداع البابا في الزيارة نفسها، قال له ناصر: “موعد الزيارة لسه ما انتهاش”، وعندما أراد البابا الانصراف، وضع يده على صدر عبد الناصر وقال له: “إني أضع يدي على يد الرب، لأنه مكتوب عندنا: يد الرب على قلوب الرؤساء”. وفي مساء اليوم نفسه، أخبر أحد رجال الدولة قداسة البابا أن الرئيس كان يشعر بألم في صدره وقد زال تمامًا بعد أن وضع البابا يده عليه.

عندما أراد البابا بناء كاتدرائية تليق بعراقة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وافق الرئيس، وأعطى تصريح البناء، وحضر بنفسه حفل وضع حجر الأساس، ثم الافتتاح، وتبرع بمبلغ مائة ألف جنيه في ٢٥ يونيو ١٩٦٧، وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت، كما كلّف إحدى شركات القطاع العام بالبناء، وسُرعان ما أنجزت الهيكل الخرساني خلال عام، وتنازل الرئيس عن باقي الديون.

وعندما أهانت إحدى الصحف البابا واتهمته بالتقاعس عن إدارة الكنيسة لانشغاله بالصلاة، أمر الرئيس بإغلاق الصحيفة، لكن البابا كيرلس، بروحه المتسامحة، طلب إعادة فتحها.

عمل الرئيس على تحقيق مبدأ المساواة بين جميع المواطنين، مسيحيين ومسلمين، في الالتحاق بالجامعات من خلال مكتب التنسيق، وأتاح فرص التوظيف للجميع بالتكليف من القوى العاملة.

في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠، توفي الرئيس جمال عبد الناصر فجأة بعد مؤتمر القمة العربية في القاهرة، الذي بذل فيه جهدًا كبيرًا. تلقّى قداسة البابا النبأ بتأثر بالغ، وأصدر بيانًا قال فيه:

“إن الحزن الذي يخيم ثقيلاً على أمتنا كلها لانتقال الرئيس المحبوب والبطل المظفّر جمال عبد الناصر إلى عالم الخلود أعظم من أن يُعبّر عنه أو يُنطق به… إن جمال لم يمت، ولن يموت، فقد صنع في عشرين سنة من تاريخنا ما لم يصنعه أحد في قرون، وسيظل اسمه مرتبطًا بتاريخ مصر وتاريخ الأمة العربية لعشرات الأجيال”.

نستطيع أن نقول إن حدة التعصب وإثارة الفتن الطائفية كانت في أدنى مستوياتها في عهده، ولم تحدث في عصره فتن كالتي حدثت في عصور لاحقة.

كل عام ومصر بخير، بمناسبة ذكرى ثورة ٢٣ يوليو.

بقلم القس بولا فؤاد رياض

كاهن كنيسة مارجرجس بالمطرية – القاهرة

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

نبذة عنا

صحيفة سي جاي العربية هي واحدة من اهم اصدارات شركة Castle Journal البريطانية الدولية لانتاج الصحف والمجلات و مقرها لندن – المملكة المتحدة البريطانيه.

CJ  العربية © Published by Castle Journal LTD.