بقلم / دكتور ابراهيم الدهش
مدير مكتب سي جاي العربيه – العراق
حين كان كل شيء صادقاً …
حين كانت القلوب تُفتح قبل الأبواب ، وكانت النوايا لا تُفحص بعدسة الشك ، والكلمات لا تُعلّق بخيوط التأويل …
نتأمل زمناً لم يبتعد كثيراً ، لكنه اليوم يبدو غريباً ، وكأنه حلم مرَّ بنا ولم ننتبه له إلا بعد أن استيقظنا على ضجيج العالم الجديد .
كنا نعيش في عالمٍ لا يعرف الازدواجية ، ولا يحتاج فيه الحب إلى مناسبة، ولا تُقاس العلاقات فيه بعدد الرسائل أو رموز التفاعل ، بل بعدد المرات التي طرق فيها أحدهم بابك ليسأل فقط ،،
“كيف حالك … وكيف الأهل ؟”
زمن الطفولة … فلسفة لا تتكرر
لم تكن الطفولة مجرد مرحلة ، بل كانت فلسفة حياة .
كنا نحب دون شروط ، ونعتذر دون كبرياء ، ونصدّق حتى إن كُذِبنا . لم نكن نعرف فنون الحذر، ولا نجيد ادّعاء القوة .
كان البكاء علنياً ، والفرح علنياً ، والدعاء نقياً يصل للسماء دون وسطاء .
وكانت البيوت ، رغم بساطتها ، عامرة بالحب والدفء … بيوت تُشبه أهلها .
كنا ننام على أصوات الجدّات، ونسهر على ضوء الفوانيس ، ونستيقظ على صوت الباعة ينادون:
“شَعرّ بَنات وينْ أوليّ وين أبات؟!”
وفي رمضان ، كنا نردد بصوت واحد ،،
“ماجينه يا ماجينه ، حلّي الجيس وانطينه”
نختلف ، ثم نتراضى دون وسيط ، نلعب ، ونضحك ، ونبكي ، ثم نعود أصدقاء كأن شيئًا لم يكن .
بيوت القناعة وقلوب الرضا
البيضة الواحدة كانت تُقسم على أربعة ، ونشبع .
القناعة كانت كنزاً ، والحمد لله كانت تُقال من القلب ، لا من العادة .
قطعة خبز يقدّمها جار ، ونظرة رضا من أبٍ لم يعرف كيف يقول “أنا فخور بك”، لكنها كانت تُقال من عينيه .
ضحكة حول مائدة متواضعة، ورائحة شاي تختلط بأحاديث لا تعرف الزيف … كل شيء كان صادقاً ، طبيعياً ، بلا أقنعة .
الصدق … لم يكن خياراً ، بل فطرة
كانت البراءة موجودة في كل شيء ،،
في خطوات الطفل ، في عيون الأم، في دعائها الذي يُرافقك دون أن تراه ،
وفي صمت الطرقات التي لم تكن تعرف الوحدة .
لم يكن الزمن الجميل في الصور الباهتة فقط ، ولا في “الدعابل” و”الجعاب” و”الصول المرصرص”،
بل في الطريقة التي كنا نعيش بها … ببساطة، بقلوب خفيفة ، ونوايا لا تخشى أن تُكشَف.
واليوم … على الجانب الآخر
نعيش زمناً كثرت فيه الأقنعة ، وتزيّنت الوجوه بالكلمات لا بالقلوب .
نكتب كثيراً ونقول أقل ، نضحك كثيرًا ونثق أقل ، نتواصل أكثر … ونفهم أقل .
صرنا نخاف من الصدق، ونتفنّن في الحذر، ونسرف في التجمّل حتى في الحزن .
ورغم كل هذا …
ما زال في داخلنا شيء من ذلك الزمن، شيء نلجأ إليه حين تضيق بنا الحياة .
فلا بأس أن نُشعل من ماضينا شمعة، أن نصدق دون دليل ، أن نعفو دون تسجيل ،
وأن نُعطي من القلب لا من الذاكرة .
آهٍ يا زمن الطيبين
ليتك تعود ، ومعك من رحلوا دون وداع .
لكن، ما من عودة ،، سوى الذكريات .
نُطهر بها أرواحنا كلما تلوثت بالضجيج ، ونُرمم بها ما تهشّم في دواخلنا ،
فنبتسم ونهمس ،،
” كان هناك زمنٌ … اسمه الجميل “
– – – – – – – إبراهيم الدهش