-
نشر بتاريخ: 08 تشرين2/نوفمبر 2020
قبل عشر سنوات تقريباً اتذكر أني تعلمت شيئاً مهما ، يومها كنت أقرأ كتاب ( طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ) ، والكتاب كما هو معروف لأحد رواد النهضة العربية ،المفكر
الكبير عبد الرحمن الكواكبي ، الذي تم إغتياله غدرا في الأربعينيات من عمره حين كان في بداية عطائه الفكري والسياسي عن طريق دس السم في طعامه من قبل السلطات العثمانية ، أو هكذا تشير أصابع الاتهام حين يتم الحديث عن إغتيال هذا السياسي العربي والمفكر التنويري / التقدمي / الاستثنائي في عصره .
في هذا الكتاب يتناول الكواكبي على وجه الخصوص مشكلة الاستبداد السياسي ، وكيف تنعكس آثاره على كل مناحي الحياة ، فتدمرها بشكل كامل ، سياسياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً واقتصادياً وحتى اخلاقياً ، لهذا يعد طبائع الاستبداد فصلاً في القول فيما يتعلق بتحديد جذر المشكلة العربية ، وأكثر من ذلك كان هذا الكتاب ذا بعد سياسي ثوري تغييري أقلق السلطات العثمانية ، كما أن الكتاب في نفس الوقت كان يحمل في طياته ما عجل بمقتل صاحبه قبل أن يتمكن هذا المفكر التنويري والتقدمي من إفراغ كامل حمولته الفكرية والنقدية للواقع العربي والإسلامي الذي نعيشه منذ قرون مع أن الكتاب صدر يومها تحت اسم مستعار لأن صاحبه كان يدرك مخاطر الحديث في مسألة الاستبداد السياسي في تلك الفترة .
في هذه المقالة لا أدعي اني اُقدم قراءة في كتاب طبائع الإستبداد لهذا المفكر التنويري ، فهذا بحد ذاته طموح لم أقرر الخوض فيه بعد ، لكني أردت الحديث عن شيء تعلمته أثناء قراءتي لهذا الكتاب ، وعلى وجه التحديد الفرق بين المجد والتمجد ، أو بمعنى آخر الفرق بين طالبي المجد وبين طالبي التمجد ، وتحديداً في معترك السياسة التي تشهد في كل زمان ومكان حضور كثيف للمتمجدين ، قياساً على حضور الماجدين ، الذين بلاشك يربون بأنفسهم ولا يقبلون الوقوف على باب السلطان ، حتى وإن بدى البعض منهم حائراً ومتردداً في اتخاذ هكذا قرار بلاشك سوف يكون له تبعات على مستقبل صاحبه حتى في لقمة عيشه .
هذه الحيرة وهذا التردد في حسم خيارات الوقوف على باب الله أو باب السلطان نعثر عليها كمثال للموقف السياسي والفكري والأخلاقي في كتاب" السلطة السياسية والسلطة الثقافية " للكاتب المقتدر علي امليل في معرض حديثه عن أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء " أبو حيان التوحيدي " الذي انتصر بعد حيرته للمبادئ والقيم وللموقف النقدي، وقد شهد مجلسه بعد ذلك تأسيس ما يسمى بـ ثقافة المقابسات ، كما يحدثنا الكتاب عن أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، فالرجل بهذا الخيار قد فضّل شظف العيش بدلاً من نعيم يأتيه مقابل الوقوف على باب السلطان ، أوحتى التسبيح بحمد أصحاب المعالي والنفوذ ، كما هو حال المتمجدين في طبائع الاستبداد .
المجد يقابله التمجد عند الكواكبي ، فالمجد في تعريف مفكرنا الذي تم اغتياله هو ( إحراز المرء مقام حب في القلوب ، وهو مطلب شريف لكل إنسان ) ،وهو يُنال بنوع من البذل في سبيل الجماعة أو المجتمع ( يجب التركيز على معنى كلمة البذل في هذا التعريف ) وذروة المجد هو مجد النبالة الذي يعرفه الكواكبي (ببذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار ، في سبيل نصرة الحق وحفظ النظام ) وهو هنا موقف سياسي نقدي يتعلق بالسياسة والسلطة والواقع الاجتماعي ، لاسيما حين ينحرف المسار من قبل الحائزين على مفاصل السلطة والحكم في أي مجتمع ، فالواقفون في وجه هذا الانحراف دائماً هم الواقفون على باب الله ، يقابلهم في كل زمان ومكان متمجدون متملقون ، يمارسون التقرب السياسي بالقول والعمل لدى هؤلاء الحائزين المسيطرين على مفاصل السلطة ، فهم على حد وصف الكواكبي (سماسرة يستخدمهم المستبد لتغرير الأمة باسم خدمة الدين أو حب الوطن أو مسؤولية الدولة أو الدفاع عن الاستقلال ) وما أكثر هؤلاء المُستخدمين في واقعنا السياسي رغم انحراف المسار بشكل مخيف على مستقبل الأجيال القادمة في اليمن .
المتمجدون وإن بلغوا منزلة مقرّبة من أصحاب السلطة والنفوذ ، أو حققوا بعض المكاسب على المستوى الشخصي ، على حد وصف ابن خلدون ( فاز المتملقون ) لكنهم في كل الأحوال لا يتحولون إلى أسماء وطنية أو أعلام نضالية في ذاكرة المجتمع أو حتى في التاريخ السياسي ، لأن هذا التحول مرتبط أساساً بالموقف السياسي النقدي الإنساني والأخلاقي تجاه ما يجري في الواقع ، لاسيما فيما يتعلق بالسياسة والسلطة والثروة ، وحتى فيما يتعلق بالواقع الاجتماعي والثقافي ، وهذا الموقف المطلوب اتخاذه يظل منعدماً عند هؤلاء المتمجدين ، لأن التخلي عن الموقف السياسي والنضالي هو شرط لازم يجب تنفيذه بالتلازم مع أول خطوة تقود صاحبها إلى الوقوف على باب السلطان ، ثم يتحول بعد ذلك إلى عطار سياسي.
في كل الأحوال يذهب هؤلاء المتمجدون أدراج الرياح ، حتى وإن تمكنوا من الإثخان في الأرض لبعض الوقت ، لأن منزلتهم لا تقاس بقيمة نضالية أو وطنية ، ولا تخضع لأي التزام أخلاقي على المستوى السياسي ، خصوصاً في حسابات أولي النعمة عليهم ، فالمقياس هنا مقياس نفعي ، محكوم بالدور المطلوب تنفيذه من قبلهم ، والدور بحد ذاته عمل وضيع ، يتمثل في تزيين ذقن السلطان وإحراق البخور في مجالس الحكام ، أو على شرفهم بين العوام ، كما أن الدور هو الآخر يقاس بكمية البخور الذي يتم إحراقه اسبوعياً أو شهرياً أو حتى سنوياً ، فمن خلال الكمية المحروقة يتم تحدد حجم العطاء المقابل لهؤلاء العطارين الواقفين على باب السلطان ، وعندما يتم استهلاك طاقة هؤلاء أو تتغير الظروف السياسية يتم الاستغناء عنهم ، وحتى في حال موتهم يكفنون بثياب العار ، ويدفنون في مقابر النسيان التي تنقطع عنها الزيارة والترحم
التاريخ في كل الأحوال أشبه بمتحف للزائرين، وبابه مفتوح على مصراعيه أمام الأجيال القادمة لمن أراد أن يعتبر ، وعندما يقرر الأحياء وحتى الأجيال من بعدهم زيارة التاريخ ، فإنها لا تقف على قبور هؤلاء المتمجدين ، وفي حال توقف البعض منهم فإنهم يقفون للتبول على قبور هؤلاء العطارين في عالم السياسة ، وليس لقراءة الفاتحة على أرواحهم ، لكنهم على العكس من ذلك يقفون مجبرين بقوة الضمير على قبور من سلكوا طريق المجد بكل تواضع ، وكأنهم أحياء يرزقون وهم كذلك في ضمائر الشعوب .
ذلك ما حدث أن فعله رجل البطش والقوة ، بل والرعب الشديد على خصومه ، مؤسس الدولة العباسية بالقوة والغدر السياسي ابو جعفر المنصور ، حين توقف بموكبه وجنده في منطقة مرّان ، وهو امير المؤمنين، يومها ترجل عن فرسه مجبراً بقوة الضمير الإنساني على قبر خصمه السياسي عمر بن عبيد ، مع أن هذا الأخير لم يعترف أثناء حياته ببيعة أبو جعفر المنصور ، بل مات وهو يتزعم تيار سياسي يؤمن بالثورة على المنصور ، وأكثر من ذلك أقدم ذات يوم على إهانة المنصور وولي عهده في مجلسهم وبين وزرائهم ، ثم غادر رافضاً قبول المال ورافضاً كل العروض المغرية التي وصلت للحد الذي أقدم فيه هذا الخليفة العباسي على خلع خيتم الخلافة ووضعه أمام عمر بن عبيد ، طالباً منه أن يأتي بأصحابه ويضعهم أين ما يريد في مناصب جهاز الدولة ، ويعزل في المقابل من يريد من أصحاب المنصور ، ومع كل هذا التنازل كان الرد على تلك العروض حاسماً وقاطعاً " اعرف الحق ، يأتك أهله في بابك ألف مظلمة ردها يعرف صدقك " ، وعندما حاول المنصور توديع الرجل محافظاً على شعرة معاوية بينهما في قوله: ألك حاجة نقضيها لك ؟ ،
كان الجواب: نعم لا تبعث في طلبي حتى اجيئك !!!
بحسب مقاييس ذلك العصر -العصبوي- ، ابو عثمان عمر بن عبيد هو ابن أحد الموالى الذين أتت بهم الفتوحات الإسلامية من خارج الجغرافية العربية ، يقدم على كل هذا التعنيف السياسي في قصر الخلافة وفي وجه خليفه من قريش ، وتحديداً من بني العباس والمنصور بالذات !
بلاشك ذلك الحدث قد رج عقول الحاضرين في المجلس بالحيرة والذهول ، فما حدث هو شيء من اللامعقول عند هؤلاء المتمجدين المسبحيين بحمد سلطان المنصور العباسي ، لكن المفارقة أن هذا اللامعقول في نظر هؤلاء كان هو عين المعقول وذاته عند المنصور نفسه الذي يعرف من يكون هذا الواقف أمامهم ، لذلك قال هذا الأخير في وجه الحاضرين بعد مغادرة عمر ابن عبيد مجلسهم المذهول :
كلكم يمشي رويدا،
كلكم يطلب صيدا
الا عمر ابن عبيدا
في هذه المواجهة الخالدة بين تلميذ أصبح خليفة أو أمير المؤمنين ، وبين أستاذ من الموالي ، لا يملك سوى الموقف السياسي ، ويعرف على أي باب يقف ، حين يتعلق الأمر بالسلطة والسياسية والشأن العام ومصلحة المجتمع ، في هذه المواجهة لم يُطلب من هذا الأخير الوقوف على باب السلطان ، ولا حتى القيام بدور عطار السلطة فمثل هذا لا يقال لعمر إبن عبيد ، بل طُلب منه أن يكون هو وجماعته أصحاب قرار في الدولة الجديدة ، ومع ذلك رفض ابن عبيد هذا العرض الكبير والمغري ، فالمسألة لا تتعلق عنده بتحقيق مكاسب شخصية أو حتى حزبية ، إذا ما جاز لنا أن نطلق على جماعتة حزب = { المعتزلة } بل تتعلق في نظر هذا المثقف الثائر بمسار وتوجه سياسي انحرف عن الطريق الصحيح منذ الإنقلاب الأول على السلطة والسياسة عام 40 هجرية ، وأكثر من ذلك يتعلق بمشروعية الحاكم نفسه ، فالمعتزلة في المسألة السياسية كانت مع فكرة الشورى بين الناس ، وضد نظام التوريث الذي سار عليه العباسيون ، كما هو حال الأمويين من قبلهم .
في كتابه مسلمون ثوار يحدثنا الكاتب الكبير محمد عمارة عن سيرة هذا المثقف التنويري والإنسان المكافح ، في مبحث عنوانه " الزاهد والعابد الفيلسوف" في هذا المبحث يقول عمارة : " لم يسبق أن أقدم خليفة على رثاء أحد من العوام لم يشغل منصب في الدولة " ، وإن شئت زد في القول كان خصماً سياسياً ومعارضاً للخليفة نفسه ، ومع هذا وقف الخليفة أبو جعفر المنصور على قبر أبى عثمان -عمر بن عبيد ، وقال في رثائه :
صلى الإله عليك من متوسدَ
قبراً مررت به على مرّان
قبرا تضمن مؤمناً متحنفَ
صدق الإله ودان بالفرقان
لو أن هذا الدهر ابقى صالحاً
أبقى لنا حياً أبى عثمان
لم يكن هذا المتوسد في رثاء المنصور يملك أثناء حياته مالاً أو سلطة ، أو حتى ينتمي لقبيلة من قبائل العرب ، ولم يكن هو العابد أو الزاهد الوحيد في مجتمعه ، كما أنه لم يكن يومها هو المثقف أو الفيلسوف الوحيد ، حتى ينال احترام المنصور أو نتحدث عنه اليوم كأحد العظام الذين سجلهم تاريخنا العربي في سجلات الخالدين إلى الأبد ، لكنه ببساطة كان يملك الموقف السياسي النقدي للواقع المتعلق بالسياسة والسلطة دون أن يهادن الحكام، لاسيما حين يعملون على حرف المسار .
زيارة التاريخ في هذه المقاربة المعرفية لا تعني تقديم مادة ثقافية للقارئ ، وإن كان ذلك أقل واجب يقع على عاتق من يمارس الكتابة في هذه الظروف ، بل تعد في وجه آخر قراءة سياسية فيما نحتاجه ونفتقده اليوم في اليمن وعلى وجه التحديد داخل المناطق الخاضعة لسلطة الشرعية على اعتبار أن من يتمسك بمبدأ الشرعية يتوجب عليه أولاً أن يكون قادراً على خلق النماذج السياسي الوطني في مناطق سيطرته ، لكن الواقع يقوال أن المسار ينحرف بشكل مخيف من قبل الحائزين على سلطة الشرعية وعلى قرارها ، كما أن الواقفين على باب السلطان = ( عطارين السلطة ) يمارسون دورهم في التقرب السياسي بالقول والعمل على أكمل وجه ،
ما يمارس من حولنا هو إعادة تثوير ما كان قبل سنوات أسباب في الثورة = { ثورة 11فبراير } وهذا يستدعي من الجميع أحزاب ومثقفين وكتاب ومتكلمين في عالم السياسة إتخاذ موقف سياسي نقدي بالمعنى الذي يجعل منهم واقفين على باب الله وليس على باب السلطان حتى لا تخلوا قبورنا جميعاً من زيارة الأجيال القادمة ، حين تدرك بعد عقود من الزمن أنها مازالت محتاجة إلى ثورة أخرى تصحح واقعها ، كما أدرك ثوار 2011م بعد ستة عقود أن من حازوا وهيمنوا على مقاليد السلطة والحكم بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م ، هم من اعاقوا مسار الثورة والجمهورية وسرقوا المشروع الثوري في اليمن الجمهوري
وحتى لا يكون ليلُنا المُلبد بغيوم الممانعة السياسية حتى اللحظة ، أشبه بالبارحة وينطبق ولو بعد حين من الزمن علينا المثل القائل (وكأنك يابو زيد ما غزيت ) يتوجب علينا اليوم وليس غداً اتخاذ موقف نقدي معرفي تجاه ما يجري بكل شجاعة كما هو حال الواقفين على باب الله دائما ، أو بمعنى آخر كما هو حال طالبي مجد النبالة على حد وصف الكواكبي في كاتبه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
فهمي محمد عبدالرحمن
الأكثر مشاهدة
Who's Online
184 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع
الصحة
الدائرة الأخيرة
فيديو كاسل جورنال
الدائرة الأخيرة
الدائرة الأخيرة مع الدكتور عاصم الليثى
الدائرة الأخيرة مع اللواء نبيل أبو النجا
كلمة د/عبير المعداوى فى عيد الشرطة