عندما تفكر في المتاحف، ما أول ما يخطر ببالك؟ ربما تخيلت قاعات واسعة تعرض قطعًا أثرية نادرة، أو لوحات فنية خلَّابة، أو حتى هياكل عظمية لديناصورات ضخمة. لكن هل تخيلت يومًا أن تكون هذه المتاحف في طليعة الجهود العالمية لمواجهة التغير المناخي وحماية البيئة؟ نعم، المتاحف لم تعد مجرد أماكن لحفظ الماضي، بل أصبحت منارات تُضيء طريقنا نحو مستقبل أكثر استدامة. اكد المجلس الدولي للمتاحف (الإيكوم) أن المتاحف تلعب دورًا محوريًا في تعزيز الاستدامة. فبالإضافة إلى كونها أماكن لحفظ التراث الثقافي، يمكن للمتاحف أن تكون منصات قوية لرفع الوعي البيئي وتعزيز الممارسات المستدامة. وفقًا للإيكوم، فإن “المتاحف الخضراء” ليست فقط تلك التي تقلل من بصمتها الكربونية، بل أيضًا تلك التي تُلهم الزوار لتبني سلوكيات صديقة للبيئة.
من حفظ التراث إلى حماية الكوكب
في عالم يئن تحت وطأة التحديات البيئية، بدأت المتاحف في إعادة تعريف دورها. لم تعد تقتصر مهمتها على عرض التاريخ والثقافة، بل أصبحت فاعلًا رئيسيًا في تعزيز الوعي البيئي وتبني ممارسات مستدامة. هذا التحول يُعرف بمفهوم “المتاحف من أجل الاستدامة”، حيث تتحول هذه المؤسسات إلى منصات تعليمية وإلهامية للجمهور.
خذ على سبيل المثال متحف العلوم في لندن. هنا، لا تُعرض فقط الاكتشافات العلمية، بل تُقدَّم حلول مبتكرة لأكبر التحديات البيئية. من خلال معارض تفاعلية حول تغير المناخ، ينجح المتحف في إشراك الزوار، خاصة الشباب، في نقاشات حول كيفية إنقاذ كوكبنا. بل إن المتحف يتعاون مع العلماء وصناع السياسات لتطوير استراتيجيات لمكافحة التغير المناخي.
الاستدامة تبدأ من الداخل
لكن دور المتاحف لا يتوقف عند حدود التوعية. فهي أيضًا تعمل على تقليل بصمتها البيئية من خلال تحسين عملياتها الداخلية. هذا ما يُعرف بمفهوم “الاستدامة من أجل المتاحف”. تخيل أن متحفًا يعود تاريخ بنائه إلى مئات السنين، يحاول تقليل استهلاك الطاقة أو التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة. قد يبدو الأمر صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا.
فمتحف العلوم في لندن، على سبيل المثال، نجح في خفض انبعاثات الكربون بنسبة 69% منذ عام 2011. كيف؟ من خلال تحديث البنية التحتية، واستخدام الطاقة المتجددة، واستبدال أنظمة التدفئة التقليدية بأنظمة أكثر كفاءة. كما قام المتحف بزراعة آلاف الأشجار المحلية لتعزيز التنوع البيولوجي، وإعادة تدوير النفايات، وحتى التبرع بالمواد القابلة لإعادة الاستخدام بدلًا من التخلص منها.

متحف فيلد: قصة نجاح خضراء
ولننظر إلى متحف فيلد في شيكاغو، الذي يُعد نموذجًا رائدًا في مجال الاستدامة. هنا، لا تُعرض فقط عجائب الطبيعة، بل تُطبَّق أيضًا مبادئ حمايتها. فريق “الفريق الأخضر” في المتحف، الذي بدأ كمجموعة صغيرة تهتم بإعادة التدوير، أصبح الآن يضم أكثر من 40 عضوًا يعملون على دمج الاستدامة في كل جانب من جوانب عمل المتحف.
من خلال شراكة مع شركة “أرامارك”، يقدم المتحف وجبات طعام مستدامة تعتمد على مصادر محلية، مع تقليل النفايات إلى أدنى حد ممكن. بل إن المتحف حصل على شهادة LEED الذهبية، وهي علامة عالمية تميز المباني الخضراء التي تراعي معايير الاستدامة في تصميمها وتشغيلها.
المتحف المصري الكبير رمز للاستدامة في أفريقيا والشرق الأوسط عندما نتحدث عن المتاحف الخضراء، لا يمكن أن نتجاهل الإنجاز الكبير الذي حققه المتحف المصري الكبير، الذي أصبح أول متحف في أفريقيا والشرق الأوسط يحصل على شهادة EDGE Advanced للمباني الخضراء. هذا الإنجاز ليس مجرد علامة على التميز الهندسي، بل هو تأكيد على الدور الذي يمكن أن تلعبه المتاحف في تعزيز الاستدامة وحماية البيئة. يُعد المتحف المصري الكبير، الذي يقع على بعد أميال قليلة من أهرامات الجيزة، واحدًا من أكثر المشاريع الثقافية طموحًا في القرن الحادي والعشرين. لكن ما يجعل هذا المتحف فريدًا ليس فقط حجمه أو مجموعته الفريدة من الآثار، بل تصميمه المستدام الذي يجعله نموذجًا يحتذى به في مجال المباني الخضراء.
منذ مرحلة التصميم، تم دمج استراتيجيات الاستدامة في كل جانب من جوانب المشروع. فالمتحف يستخدم تهوية طبيعية وإضاءة طبيعية لتقليل استهلاك الطاقة، بالإضافة إلى الكتلة الحرارية التي تساعد في تنظيم درجة الحرارة داخل المبنى. كما تم تركيب أنظمة إضاءة وأنظمة تحكم عالية الكفاءة، مما يقلل من استهلاك الطاقة بشكل كبير.بالاضافة الي محطة الطاقة الشمسية التي تم تركيبها علي مظلات انتظار السيارات.

إنجازات ملموسة: توفير الطاقة والمياه
نتيجة لهذه الجهود، نجح المتحف المصري الكبير في تحقيق توفير بنسبة 60% في استهلاك الطاقة و30% في استهلاك المياه مقارنة بالمشاريع المماثلة. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل هي دليل على أن التصميم المستدام يمكن أن يكون فعالًا من الناحية العملية والاقتصادية.
كما حصل المتحف على العديد من الشهادات الدولية المرموقة في مجال الاستدامة والمباني الخضراء، مما يجعله رمزًا للتميز في المنطقة والعالم.

التحديات: طريق طويل نحو الاستدامة
بالطبع، الطريق نحو التحول الأخضر ليس مفروشًا بالورود. فالكثير من المتاحف تعاني من تحديات كبيرة، خاصة تلك التي تقع في مباني تاريخية يصعب تعديلها لتكون أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة. بالإضافة إلى ذلك، تتطلب هذه التحولات استثمارات مالية كبيرة، وهو ما قد يكون عائقًا أمام بعض المؤسسات.
لكن الفرص أكبر من التحديات. فالمتاحف لديها القدرة على إلهام ملايين الزوار سنويًا، مما يجعلها منصات قوية لتغيير السلوكيات وتعزيز الثقافة البيئية.

متاحف تُضيء المستقبل
في النهاية، المتاحف لم تعد مجرد أماكن نحفظ فيها ماضينا، بل أصبحت منارات تُرشدنا إلى مستقبل أكثر استدامة. من خلال جهودها في التوعية البيئية وتحسين عملياتها الداخلية، تثبت هذه المؤسسات أنها قادرة على لعب دور محوري في مواجهة أكبر التحديات التي تواجه البشرية اليوم.
ففي المرة القادمة التي تزور فيها متحفًا، تذكر أنك لست فقط في رحلة عبر التاريخ، بل أنت أيضًا جزء من رحلة نحو مستقبل أخضر.
نبذة عن الكاتب:
بقلم: د. الشيماء محمد السيد عيد
خبير دولي المباني الخضراء و التنمية المستدامة و رئيس جهاز السلامة و بيئة العمل – المتحف المصري الكبير